ثمة رؤية مستنيرة وتوافق تام في أغلب الأوساط الاجتماعية في عالمنا العربي على اختلاف تبايناتهم الثقافية حول رؤيتهم للمشروع الثقافي المعرفي التي كانت ساحته الأولى البادية، وهذه الرؤية منبثقة من وعي عقلاني لمعطيات تتمثل في سلوك إنساني خلاق ونبيل، ويرى البعض أن ذلك حالة إنصاف للإنسان البدوي الذي اتصف بالشهامة والكرم وكيف امتد بوعي حضاري عرفاني وأصبحت حياتهم متداولة كمشروع ثقافي واسع ومرجعية ثقافية واسعة، ولا يزال الدرس قائماً على تلك المراحل بما شملت واتسعت به إلى يوم الناس هذا، ومن هنا فقد آن الأوان أن نقف على تلك الرحلة التي لا تزال ممتدة ونحفل بها إلى اليوم، ونستلهم بواعثها ومنطلقاتها الأولى وبواكير فجرها البعيد، فقد شكلت الصحراء وإنسان البادية الشرارة الأولى للمعرفة، فالبادية هي الساحة الأولى للمعارف الاجتماعية لتمتد بعد ذلك على امتداد الساحة الإنسانية، فقد ساهم الرواد الأوائل من الحواضر العربية كالكوفة والبصرة وبغداد وغيرها بالذهاب إلى البادية وعمق الصحراء، ومن ثم تناولوا المعرفة والنتاج الفكري من أفواه البدو كالشعر والحكم والأمثال وأصّلوها لتصبح معارف أدبية راقية استحقت العناء، واستمر عليها الدرس والتدوين طوال قرون ولا تزال مثيرة للانتباه وموضع تداول للبحث والدرس، وتتبدى بين كل فترة وأخرى كأطروحات أكاديمية من كل الجامعات في العالم، وساهمت بشكل مباشر في المعرفة والنهوض بها، ويعود ذلك لأسباب عدة، ومن ذلك أنها رفعت بروافع فكرية حكيمة لتسير في وجهتها الصحيحة وفقاً لمناخات واعية وراشدة ابتعدت عن التعصب والتحيز الذي قد يمقت اليوم تجاه كل مكون صحراوي، إلى جانب ذلك فهي تحمل قيّماً اجتماعية وإنسانية مختلفة وضعت إنسان البادية في الصف الأول وفي مرحلة الصدارة نظراً لأثرها المتوالي والمستمر، وتلك هي الصحراء ونتاجها وأولئك هم البدو أساطير البادية، مصطلح أقل ما يقال عن عطائهم وشيمهم وقيمهم وسيرهم التاريخية والحضارية، ففي الأدب الرفيع والخلق السامي حين رسم عبد قيس بن خفاف شاعر تميم لابنه (جُبيل) خارطة طريق للأخلاقٍ حميدة وللإنسان المترفع عن صغائر الأمور والمتجاوز عن كل عثرات الحياة ومصاعبها مع همم عالية لفعل الخير ولو بزمن الخصاصة، فقال: أَجُبَيلُ إِنَّ أَباكَ كارِبُ يَومِهِ فَإِذا دُعيتَ إِلى العَظائِمِ فَاِعجَلِ أوصيكَ إيصاءَ اِمرِئٍ لَكَ ناصِحٍ طَبِنٍ بِرَيبِ الدَهرِ غَيرِ مُغَفَّلِ اللَهَ فَاِتَّقِهِ وَأَوفِ بِنَذرِهِ وَإِذا حَلَفتَ مُمارِياً فَتَحَلَّلِ وَالضَيفَ أَكرِمهُ فَإِنَّ مَبيتَهُ حَقٌّ وَلا تَكُ لُعنَةً لِلنُزَّلِ إلى أن قال في محاولة جادة في الاعتداد بالنفس بصرف النظر عن أحوالها المادة ليكون غنى النفس هو أعلى شاناً وأكثر حضوراً. وَإِذا اِفتَقَرتَ فَلا تَكُن مُتَخَشِّعاً تَرجو الفَواضِلَ عِندَ غَيرِ المُفضِلِ إن الإنسان العربي عاش في صحراء الجزيرة العربية التي رآها كجزء من ذاته وهو شامخ الرأس، تجول فيها بين سعة مد الفيافي ومتاهات القفار يبحث عن منابت الكلأ ومواقع الماء ولا يرتد إلى ذاته إلا مشاعر اللين لتولد أنماط من العلاقات وحالة اجتياف تدخل إلى أعماق نفسه، ليكون واقع الجغرافيا جزءاً من شخصيته وكيانه على رأي شاعر البيد الشاعر محمد الثبيتي: أَلاَ دِيمَةً زَرقاء تَكتَظُّ بالدِّمَا فَتَجْلُو سَوادَ الماءِ عَنْ ساحِلِ الظَّمَا أَلاَ قَمَرًا يَحْمَرُّ فِي غُرَّةِ الدُّجَى ويَهْمِي على الصحراءِ غيثاً وأَنْجُمَا هذه الأبيات تصور العلاقة بين إنسان البادية والصحراء، وهي أبيات مشوبة بالتفاؤل ويحدوها الأمل وتبتعد عن كل حالة يأس وقنوط، وفي الوقت الذي كان فيه إنسان البادية يصطحب معه سفينة الصحراء (الإبل) والتي تعلّم منها الصبر وقوة التحمل، ورفيق دربه فرس جامح لا تقِف إلا حيث مساحة تستحق أن يقف عليها حين يشد زمام الرسن ليستلهم معه المعنى والرؤى التي تبعث بالشموخ والاعتزاز فلا نستلهم إلا بيت شعري لامرئ القيس وهو يوصف حصانه: له أيطَلا ظبيٍ وساقا نعامة وإرخاءُ سرحانٍ وتقريبُ تتفلِ ودون أدنى شك أن البيئة الصحراوية ساهمت في بعض التكوين المعرفي والذهني الخلاق، وقد أسهمت كذلك في مسيرة خُطا البدوي التي امتدت على كثبانها الرملية إلى التأسيس معنى الصبر والتحمل والأمل بغدِ الغيث المنبثق من أكمام السحب المتراكم في جوف السماء، وأجزم أننا اليوم لا نستطيع أن نتعايش ثقافيًا ومعرفيًا خارج تلك الفترة المشرقة من عمر الزمن، حيث أصبح الشعر والحكم والأمثال من أهم المكونات الثقافية التي نعيشها اليوم في منتدياتنا الثقافية وملتقياتنا الفكرية والمعرفية، بل إننا نستشهد بكل معطياتها وتعد مرجعية ثقافية كبيرة تمنحنا اتجاهات مختلفة نفسية واجتماعية وإنسانية وغيرها من القيم الاجتماعية المختلفة، ومعها نصور كل حال لأنها تلعب الدور الحيوي في رفد مداولاتنا للحديث اليومي الذي يتضمن أبيات شعر أو حديث مرصع بالحكمة أو مسار عميق مضمن بالمثل، ونحن في المملكة العربية السعودية لم نخرج عن هذا السياق بل إن الرؤية التي رسمها سمو سيدي الأمير محمد بن سلمان -يحفظه الله- انتقلت بنا نحو كل أبعاد الماضي ليس لتقف على وقع إيقاعها فحسب بل نتمثلها في كل سلوكنا اليومي ونجعل من كل أنماط الماضي أسلوب حياة نمارسه بشكل مستمر، ففي أكبر محفل عالمي ضمن منتديات الكبار قد اختير السدو شعاراً عالمياً لمنظمة العشرين، الذي من خلاله استطعنا أن نلهم به العالم ليشكل بعد ذلك رافداً اقتصادياً وشعاراً مميزاً للكثير من المنتجات التجارية، واليوم نحن في المملكة بفضل الرؤية المباركة نستعيد قيم الماضي وملامح صورة الموحية ونعتز بالبادية بكل أبعادها وملامحها لتكون ضمن مسار توجهاتنا السياحية لتتصدر كل الواجهات والساحات لنؤكد للعالم أننا نحن البدو نعتز بكل ماضينا وإرثنا الثقافي والحضاري الذي كان ولا يزال ملهمًا للثقافة والمعرفة ويتعدد اليوم بجوانبه السياحية والاقتصادية ليحقق بُعدي الترويح والمنفعة لنا ولغيرنا. الصحراء عززت قيم الكرم والمروءة لدى البدو