رؤية 2030 أنشأت هيئة كبرى بالعُلا لإحياء هذا المكان واستصراخه في وجه الزمن وخاصة لاقترابه من مشروع نيوم العظيم، فمحافظة العلا أكبر بكثير من إقامة حفلات غنائية لمشاهير الغناء، بل يجب استصراخ الحجر والشجر والأمكنة لكي تنطق هي بصوتها للعالم واستجلابه، ولتقل له من هي، وكيف كانت، لتظل شاهدة على التاريخ.. ديارنا هي قبلة الباحثين، ومدرج الإنسانية، تبوح كل يوم تطلع فيه الشمس، بسر جديد وعلم جديد، وثقافة غير متناهية تتجدد كل يوم بعطر فواح يخلّد الأمكنة في كل الأزمنة المتتالية. لم تكن العُلا مجرد مكان تقطنه مجموعة من القبائل والعشائر والبطون، وإنما هي مخزن كبير للتراث والآثار، مثل الديوان، قصر فريد، وقصر البنت، وقصر أبو زرائب، وقلعة الباشا، وشلالات الهوية شرقي وادي القرى وطنطورة، والآبار والقنوات المائية المحفورة، ثم لا ننسى مدائن صالح وكيف كانوا يحفرون في الجبال بيوتًا ومدنًا. وللثقافة أيضًا شأن آخر فيما تركته هذه المنطقة من سير وقصص وشعر لفحول شعراء العرب. فلم تكن أرض العُلا صحراء قاحلة كما يروجه المستشرقون والكتبة عن الجزيرة العربية، بل هي أرض ذات نخيل وعيون ماء دافقة وغابات غناء وجبال مشجرة وحدائق مزهرة، وكل صنوف الود والمتعة. ولن نطيل على القارئ الكريم بتحديد موقعها الجغرافي وما يحدها من القبائل وما إلى ذلك، وإنما هي تقع في الشمال الغربي من المملكة العربية السعودية مع حدود تبوك والأردن وتبعد عن المدينةالمنورة حوالي ثلاث مئة كلم تقريبًا. ولم يأتِ اختيار مكان مدينة نيوم مجاورا لها -على يد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان حفظه الله- مجرد اختيار موقع لهذا المشروع العظيم، وإنما ليتحاور المكانان الحاضر والماضي في توءمة تُبصّرنا بهذه العلاقة الكبيرة بين تاريخ باذخ المجد والثقافة والمستقبل بكل تحديثاته وتحدياته، وبكل أدواته المستقبلية والحاضرة. ولكي ترتبط الذهنية العربية والعالمية بهذا الإرث الكبير، فلا فكاك من ماضٍ عتيق مجيد تليد وبين مستقبل حديث ومتوازٍ مع ذلك المجد في تراث أرضنا الحبيبة، التي شهدت تعاقب حضارات كبيرة عليها، مثل حضارة الأنباط والقيداريون، واللحيانيون ثم الإمبراطورية الرومانية في القرن الثاني والثالث بعد الميلاد بعد سقوط مملكة الأنباط، ثم الحضارة الإسلامية. فحينما دخلها النبي محمد عليه أفضل الصلاة والسلام حدد موقع مسجد بها بالعظام، فبناه أهلها وأطلقوا عليه مسجد العظام. ومدينة العلا بقلاعها الحصينة وجبالها التاريخية لها وبها قصص تروى وثقافة سبقت العالم كله في الشعر واللغة والحب والسلام، استلهم منها كثير من كتاب العالم قصصا ومسرحيات وأعمالا سبق أن كان أصلها في العُلا. وعلى سبيل المثال ما كان يروى من قصص الحب العذري الذي كان بجملته في العلا وخاصة في قبائل بني عذرة، ولذاك سُمِي بالحب العذري! ومنها قصة غرام جميل بثينة، وكثير عزة وغيرهم من كل القصص بوادي القرى التي تلهم العالم حتى أصبحت قبورهم الآن مزارًا للسائحين والمبدعين، وأماكن التقائهم مثل وادي الغضا ملتقى جميل وبثينة، ذلك الوادي المطير الكث بنباتاته ونخيله ومن أشجار الأراك والغضا وهضبة حسمى ووادي الأثاية وغيرها من الأمكنة التي يقصدها الزائرون لالتماس أمكنة الحب العذري لكل العاشقين الذين ماتوا من أجل الحب. وعلى مقربة منه نجد جبل التوباد الشهير، هذ الجبل الذي شهد قصة حب قيس بن الملوح وابنة عمه ليلى العامرية وذلك في عام خمسة وستين من الهجرة في عهد الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان، الذي قال فيه قيس: وأجْهَشْتُ للتوباد حين رأيته وهلل (وكبر) حين رآني وأذْرَفتُ دمع العين لما رأيته ونادى عليّ صوته ودعاني فقلت له أين الذين عهدتهم حواليك في خصب وطيب زمان؟ "وكان يطلق على وادي القرى وادي (قُرح) ويعتبر الناحية الاستيطانية ملازما للحجر، ففي نفس الحقبة التاريخية ما قبل الميلاد كانت قُرح عاصمة وادي القرى مستوطنة ثمود، فيقول الأصفهاني في كتابه الأغاني: "وفوق ذاك الوادي وادي القرى وبه عينان يقال لإحداهما غالب والثانية زيان، وفوق ذلك العوالي، وهي قرى فوقها الحجر -حجر ثمود- وقرية وسوق". وسوق وادي القرى هو سوق قرح الذي كان يربط بين تجارة الشرق والغرب فيصبح رابطا مهما في تاريخ الحضارات، ومع تتابعها، يمكن لنا أن نستشف أهمية هذا المكان كتاريخ وحضارة واقتصاد عالمي قديما وحديثا. ويقال إن أول من سكنها من الأمم البائدة هم طسم، واستدلوا بما ذكر في التوراة لقبيلة طسم، وهي بطن من بطون قبيلة عربية في الشمال تسمى (ديدان) التي تسمى وادي العلا نسبت (ديدان). ويعود تاريخها إلى القرن الثامن قبل الميلاد، وقد وجدت نقوش في العلا تدل على وجودهم هناك، كما ذكر أنهم حكموا العلا حتى أغار عليهم اللحيانيون ثم المعينيون استنادًا على النقوش التي اكتشفت في العُلا وعمان والأردن حتى أعالي الحجاز لحماية قوافلهم التي تمر من وادي القرى إلى العلا والحجر، وكان هذا في القرن الخامس قبل الميلاد. هذه الأمكنة الغنية الفريدة من نوعها تضفي على قاطنيها نوعا من الثراء، وأحيانا تستجلب المعتدي بالغزو عليها، فهي تعج بمناجم الذهب والفضة، فمنطقة الجبانة فيها آثار تعدين يتضح أن أهلها يشتغلون بالذهب والفضة وجنوبها مناجم ضخمة تسمى (أم فقور) وقد عرف المسلمون المناجم قديما، ولوادي القرى وذوي نصيب كبير منها، وكانت السلطات الحاكمة تأخذ الخمس من معادن الفرع، ونجران وذي المروة ووادي القرى مما دل على أن الناس كانوا يستغلون مناجم هذه الأرض في الإسلام. ومع كل هذا وذاك نرى أن رؤية 2030 قد أنشأت هيئة كبرى بالعُلا لهذا الشأن لاحيائه واستصراخه في وجه الزمن وخاصة لاقترابه من مشروع نيوم العظيم، وهي الهيئة الملكية لمحافظة العُلا والتي تقول: إن "جوهر عملنا يكمن في التوازن الدقيق بين الحفاظ والتنمية من خلال حماية تراث العُلا ومعالمها الطبيعية ونهدف إلى تحقيق النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة، وقد تمت صياغة استراتيجيتنا لتحقيق هذا الهدف لتشمل حماية التراث وتعزيز بيئة وتاريخ العلا". ونأمل أن يتحقق هذا، فمحافظة العلا هي أكبر بكثير من إقامة حفلات غنائية لمشاهير الغناء ليس إلا، بل يجب استصراخ الحجر والشجر والأمكنة لكي تنطق هي بصوتها للعالم واستجلابه، ولتقل له من هي وكيف كانت لتظل شاهدة على التاريخ.