في زمن إدمان التواصل، باتت المنصات ساحةً لإظهار التدين وإعلانه على حساب أن يكون سلوكًا خالصًا لوجه الله، كما باتت مسرحًا لاستعراض الكرم بدلًا من مواراته وحفظه كقيمة متجذرة في النفوس، وهنا تكمن "المراءاة"، ذلك التهديد الخفي الذي ينخر في الأعمال الصالحة والقيم النبيلة حتى تفقد جوهرها، وتصبح بلا معنى ولا قيمة، وإن أعجبت صاحبها. فالبعض لا يكتفي بأداء العبادة، بل يحرص على أن يعلم الجميع أنه يصلي ويقرأ القرآن ويتصدق، وكأن الأجر يتضاعف بالإعلان لا بالإخلاص!.. ومنهم من ينشغل بتصحيح عبادات الناس ومراقبتهم أكثر من انشغاله بخشوعه وسلامة قلبه، فتراه بعد صلاته لا يسارع إلى التسبيح وطلب القبول، بل ينشغل بالالتفات يمنةً ويسرة، يبحث عمن صلى ومن لم يصلِّ، وربما ليخبر الجميع أنه في الصف الأول! المتديّن الحقيقي لا يحتاج إلى جمهور ليشهد على صلاته، ولا إلى عدسات توثّق ركوعه وسجوده وصدقاته، فعباداته بينه وبين ربه، وخشيته تكفيه عن حاجته إلى إعجاب الآخرين، وكذلك الكريم، لا يبتغي في عطائه شهرةً، ولا يبحث عن مقاطع توثّق إحسانه، لأنه يعلم أن الجود الحقيقي لا يحتاج إلى شهود؛ فالعطاء الذي يسبقه إعلان، ويدعمه توثيق، هو استثمارٌ أكثر منه عملًا خالصًا لله. المراءاة لا تفسد العمل فقط، بل تفسد النفوس أيضًا، إذ تجعل القيم النبيلة أداة لتحقيق المكانة بدلًا من كونها نابعة من نقاء الإيمان ونشر المعروف؛ فيتحوّل الإحسان إلى استثمار، والتديّن إلى وسيلة للظهور، وما أسوأ أن تُباع المبادئ بثمن رخيص على موائد الوجاهة الاجتماعية! القيم الحقيقية لا تحتاج إلى منصة، بل تظهر في لحظة صدق، في الخفاء؛ دون انتظار مقابل؛ فالمعيار الأسمى لأي عمل نبيل هو أن يبقى نقيًّا، بعيدًا عن أعين التصوير وموازين التفاعل، لأن الإخلاص لا يُقاس بعدد المشاهدات، بل بصفاء النية، ولا تُوزن الأعمال بعدد الإعجابات، بل بصدقها وإخلاصها لله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر"، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: "الرياء، يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً؟".