لم تعد التقنية ترفاً، ولا سياقاً ترفيهياً أو دعائياً، إنما إلحاحٌ واقعي تفرضه علينا طبيعة الحياة الحالية والتقدم الكبير في إدارة شؤون البشر عبر الرقمنة والخوارزميات، فباتت تتنبأ بكل شيء قبل أن نطلب منها ذلك. وهذا يبدو لي ليس ذروة كل شيء، فهناك ما هو قادم أكثر تقدماً وسرعة، ليعيد تشكيل حياتنا بطرق لم نكن نتخيلها قبل سنوات قليلة. واليوم تسارع الابتكارات التقنية لا يقتصر على تحسين الرفاهية الفردية، بل يمتد إلى بنية المجتمعات واقتصاداتها، إذ نشهد اليوم تحولاً عميقاً في كيفية تفاعل الإنسان مع الآلة، وكيف تؤثر التقنيات الناشئة على سوق العمل، والتعليم، والصحة، وحتى على مفهومنا للأمن والخصوصية، فالذكاء الاصطناعي بات قادراً على تحليل البيانات الضخمة واتخاذ قرارات دقيقة تفوق سرعة العقل البشري، وأضحى تعلم الآلات يستشرف سلوك المستخدمين، ويقدم حلولاً آنية تسهم في رفع كفاءة الإنتاج وتقليل الهدر. وحينما نتحدث عن ذلك فاليوم المملكة تؤدي دوراً ريادياً في تسخير التقنية لخدمة التنمية، إذ تحتضن الفعاليات الكبرى التي تجمع العقول المبدعة والمبتكرين لمناقشة مستقبل التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي، ومن أبرز هذه الفعاليات ما شهدناه في "ليب 2025" الذي يمثل منصة عالمية لاستعراض أحدث التطورات التقنية واستكشاف الإمكانات غير المحدودة للابتكار، وهو فضاءٌ فكري يربط الشركات الناشئة بالاستثمارات الضخمة، ويوفر أرضيةً خصبة للنقاشات حول مستقبل الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، والأمن السيبراني، وغيرها من المجالات التي ترسم ملامح الغد. ولذلك لم يعد التحول الرقمي خياراً إنما حتمية تفرضها علينا ديناميكية العصر، والمملكة تدرك أن استثمارها في التقنية هو استثمار في مستقبلها واقتصادها المعرفي، فمن خلال تعزيز البحث والتطوير، ودعم رواد الأعمال في المجالات التقنية، تضع نفسها في موقع الريادة إقليمياً وعالمياً، وتدفع عجلة الابتكار نحو آفاق جديدة، وما مؤتمر ليب إلا انعكاس لهذا الطموح، حيث يجتمع فيه صناع القرار والخبراء لتوجيه مسار التقنية نحو تحقيق أهداف مستدامة تخدم البشرية جمعاء. مع هذا التسارع، أصبح من الضروري توظيف هذه الطفرة لصالح البشرية، ومن هذا المرتكز تبرز أهمية مثل هذه الفعاليات العالمية، التي تجمع العقول المبدعة لصياغة مستقبل أكثر ذكاءً واستدامة. فالتقنية اختصار للمسافات، وإعادة تشكيل لعلاقتنا مع العالم، وباعتقادي أن القادم تقنيا يحمل معه مزيداً من الدهشة والقدرة على إعادة تعريف المستحيل، فالعالم يتعطش سنوياً للجديد؛ لأنه يرى أن التقنية جزء لا يتجزأ من نسيج الحياة اليومية.