في أحدث مؤشر على توسع الحرب التجارية، نفذ الرئيس الأميركي دونالد ترمب تهديداته، التي طالما توعد بها، وذلك عبر فرض رسوم جمركية قياسية بنسبة 25 % على المنتجات الكندية والمكسيكية، مع فرض نسبة 10 % على موارد الطاقة الكندية، وأيضاً 10 % على المنتجات الصينية، ويثير هذا الاتجاه الناشئ، موجة من القلق بين الشركات المنتجة للسيارات، بداية من نيسان اليابانية، ومروراً بكيا الكورية الجنوبية، وانتهاءً بجنرال موتورز، وفورد الأميركيتين، مما يجبر هذه الشركات على إعادة النظر في استراتيجياتها للإنتاج والمبيعات. المخاطر الاقتصادية تهدد رسوم ترمب، أسواق التجارة المزدهرة بين الولاياتالمتحدةوكنداوالمكسيك، والتي تشمل مجموعة واسعة من السلع والخدمات، ومن بين القطاعات الأكبر حجماً تصنيع السيارات، والطاقة، والزراعة، والسلع الاستهلاكية، وفي عام 2024، بلغت قيمة جميع السلع والخدمات المتداولة بين الولاياتالمتحدةوكندا نحو 909 مليارات دولار، بينما تجاوزت التبادلات التجارية بين الولاياتالمتحدةوالمكسيك في نفس العام، 855 مليار دولار، وتعتبر صناعة السيارات، التي تعتمد على التجارة عبر الحدود، واحدة من أكثر الصناعات تضرراً، فالسيارة التي يتم تجميعها في كندا أو المكسيك أو الولاياتالمتحدة تعتمد إلى حد كبير على إمدادات قطع الغيار من مختلف أنحاء أميركا الشمالية. تؤدي التعريفات الجمركية الراهنة إلى رفع التكاليف على طول سلسلة التوريد ذات العلاقة بالصناعة، مما يزيد الأسعار على المستهلكين وجعل المصنعين في الولاياتالمتحدة أقل قدرة على المنافسة، وقد تكون هناك أيضًا تأثيرات متتالية على الزراعة، إذ تصدر الولاياتالمتحدة مليارات الدولارات من الذرة وفول الصويا واللحوم إلى كنداوالمكسيك، في حين تستورد المنتجات الطازجة مثل الأفوكادو والطماطم من المكسيك، وقد تؤدي الرسوم الجمركية إلى استفزاز تدابير انتقامية، مما يعرض المزارعين وموردي الأغذية في البلدان الثلاثة للخطر، وكان قرار ترمب بتأجيل وخفض الرسوم الجمركية على النفط متوقعا إلى حد ما، فقد زادت واردات الولاياتالمتحدة من النفط الكندي على مدى العقود الأخيرة، مما يعني أن الرسوم الجمركية سوف تلحق الضرر بالمستهلكين الأميركيين على الفور. قطاع السيارات الأكثر تضرراً تشير البيانات، إلى تواجد خمس شركات آسيوية، بين أكبر عشر شركات سيارات كبرى تقوم بتصدير سيارتها من مصانعها في المكسيك إلى الولاياتالمتحدة، حيث تتصدر "نيسان" إنتاج أكبر عدد من المركبات على هذا الطريق، وهكذا، ستكون الشركة الأكثر تضرراً، ففي عام 2024، صدرت شركة السيارات اليابانية 326600 سيارة من المكسيك إلى الولاياتالمتحدة، وهو ما يعادل 35 % من مجموع مبيعاتها البالغ 924 ألف سيارة باعتها في الولاياتالمتحدة في العام المنصرم. تملك "نيسان" عدة مصانع في المكسيك، فقد بدأت الإنتاج مطلع ستينيات القرن العشرين في هذه الدولة، وهي تنتج موديلات تحظى بشعبية بين الأميركيين مثل سنترا وفيرسا وكيكس، وتمثل أميركا الشمالية، بما في ذلك الولاياتالمتحدة، نحو 40 % من 3.4 ملايين سيارة تتوقع "نيسان" بيعها خلال السنة المالية الحالية التي تنتهي في مارس، أما شركة مازدا اليابانية، التي بدأت تشغيل مصنعها في المكسيك عام 2014، فإنها تصدر من المكسيك نحو 27 % من السيارات التي تبيعها في الولاياتالمتحدة، ويعتبر هذا المصنع قاعدة استراتيجية لتعزيز مكانتها في السوق الأميركية، حيث يتجاوز إنتاجها التراكمي مليون سيارة منذ عام 2020. بينما، تعتمد شركة هوندا بنسبة 15 %، ومجموعة هيونداي بنسبة 10 %، وتويوتا بنسبة 10 % على مصانعها في المكسيك، ويرجع هذا جزئيًا إلى الطريقة التي تنظم بها هذه الشركات هياكل التكاليف وسلاسل التوريد والخدمات اللوجستية، فيما يتعين الآن على شركة كيا الكورية الجنوبية، إعادة النظر في الوجهة الجديدة لنحو 120 ألف سيارة سيدان K4 كانت تخطط لتصنيعها هذا العام في مصنعها المكسيكي، ثم شحنها إلى الولاياتالمتحدة، وهذا القرار يضعها، مثل منافسيها، في مأزق حقيقي، للبحث عن أسواق بديلة. في تلك الأثناء، أصبح مستوردو السيارات في الولاياتالمتحدة أكثر قلقاً بشأن تأثير الرسوم الجمركية المشددة بنسبة 25 % على السيارات وقطع الغيار القادمة من المكسيك، إلا أنه على الرغم من أن التكاليف الإضافية ستثقل كاهل شركات السيارات الرائدة، إلا أن هذه السياسة المشددة لن تقوض مبيعاتها بشكل كامل في سوق ضخم مثل الولاياتالمتحدة، ووسط كتلة سكانية هائلة تتجاوز 335 مليون نسمة، وعلاوة على ذلك، من المرجح، أن تؤثر هذه التعريفات على سلاسل توريد قطع غيار السيارات التي أصبحت متكاملة عبر الحدود، مما يرفع التكاليف على شركات صناعة السيارات. تعتبر السوق الأميركية، التي تبلغ مبيعاتها السنوية نحو 16 مليون سيارة، سوقًا أساسية لشركات صناعة السيارات، ولتلبية الطلب الأميركي وخفض تكاليف العمالة، استثمرت شركات صناعة السيارات في المكسيك، وقد تسارعت هذه الخطوة بفضل اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا)، التي دخلت حيز التنفيذ في عام 1994، وتم تعديلها لاحقًا لتصبح اتفاقية تضم الولاياتالمتحدةوالمكسيكوكندا، وبحسب المعهد الوطني للإحصاء في المكسيك، فقد وصل إنتاج السيارات في المكسيك إلى 3.98 ملايين سيارة في عام 2024، بزيادة 5.6 % عن العام 2023، وتم تصدير نحو 90 % من إجمالي الإنتاج، وخاصة إلى الولاياتالمتحدةوكندا. أصبحت المكسيك جزءًا لا يتجزأ من الأنظمة الإنتاجية لمصنعي السيارات في الولاياتالمتحدة، وبالتالي، تؤثر الرسوم الجمركية الكبيرة سلبًا على صادرات قطاع السيارات المزدهر في المكسيك، وهذا الأمر ينطبق أيضًا على شركات صناعة السيارات الأميركية، وبحسب بيانات مارك لاينز، وهي منصة معلومات متخصصة في صناعة السيارات العالمية، فقد صدرت "جنرال موتورز" 711.500 سيارة من المكسيك إلى الولاياتالمتحدة في عام 2024، بينما صدرت "فورد" 358.400 سيارة من المكسيك إلى الولاياتالمتحدة، ما يجعلهما أكبر شركتين لصناعة السيارات من حيث الحجم على هذا الطريق، وبالنسبة لجنرال موتورز، فإن 26 % من السيارات التي باعتها في الولاياتالمتحدة تأتي من المكسيك، وبالنسبة لفورد، فإن النسبة 17 %. ولتخفيف أي تأثير قريب المدى، تقوم شركة جنرال موتورز، التي تصنع الشاحنات في المكسيك، بإعداد شبكة سلسلة التوريد ومصانع التجميع لمواجهة سيناريوهات التعريفات الجمركية المتعددة التي تتبناها إدارة ترمب، ومن المتوقع أن تحجم شركة السيارات الأميركية العريقة عن إنفاق مبالغ ضخمة دون وضوح الرؤية، وبالتالي، يمكنها تحويل تصنيع الشاحنات إلى الولاياتالمتحدة، بهدف تقليل التأثير الناجم عن التعريفات الجمركية المشددة. لا شك أن تأثير هذه الرسوم سيكون أشد على شركتي جنرال موتورز، وفورد، الأميركيتين مقارنة بشركات صناعة السيارات الأخرى، بالرغم من أن ترمب أكد مراراً أنه يريد إنقاذ صناعة السيارات الأميركية، وفي الوقت الحالي، لا يمكن للشركات سوى الانتظار وتقييم مدى تأثير هذه السياسات الحمائية على عملياتها التشغيلية، وعموماً، ليس من السهل إعادة توزيع الإنتاج، وفتح أسواق جديدة تضاهي الأسواق الأميركية المربحة للغاية، ولكن، من المرجح أن تضطر الشركات إلى اتخاذ تدابير مثل تمرير التكاليف إلى المستهلكين والتجار. ماذا يريد ترمب؟ من المتوقع، أن يخلف هذا التوجه الأميركي تأثيراً فورياً على البلدان الثلاثة، وعلى المشهد التجاري في منطقة أميركا الشمالية، مما قد يشكل بداية لإعادة تشكيل جذرية للتجارة الدولية في مختلف أنحاء العالم، وعلاوة على ذلك، يمثل هذا تحولاً كبيراً في الروابط التجارية الوثيقة بين هذه الدول المجاورة، فالولاياتالمتحدةوالمكسيكوكندا أطراف في الاتفاقية التي ستخلف اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا)، وهي اتفاقية الولاياتالمتحدةوالمكسيكوكندا (USMCA)، وفي حين يبرر ترمب هذه الخطوة بأنها نابعة من مخاوفه بشأن أمن الحدود وتجارة المخدرات، إلا أن هذه الرسوم في الواقع، لها دوافع أوسع، فقد صور ترمب نفسه، في كل حملاته الانتخابية، باعتباره بطلاً للعمال الأميركيين، معتبراً أن التعريفات الجمركية هي "الكلمة الأكثر جمالاً في القاموس". لم يخفِ ترمب استعداده لاستخدام الرسوم الجمركية كسلاح للضغط على الدول الأخرى لتحقيق أهداف جيوسياسية، وهذا هو تجسيد لما يمكن أن نسميه "التجارة المسلحة"، وقد ظهر هذا جليا في أواخر يناير، عندما منع رئيس كولومبيا الطائرات العسكرية الأميركية التي تحمل مواطنين كولومبيين مرحلين من الولاياتالمتحدة من الهبوط، حيث نجح ترمب في استخدام التهديد بالرسوم الجمركية لإجبار كولومبيا على التراجع عن مسارها. خيارات كنداوالمكسيك هددت كنداوالمكسيك بفرض رسوم جمركية انتقامية، لكنهما بذلا محاولات لاسترضاء ترمب، مثل إطلاق كندا "حملة صارمة" على تجارة الفنتانيل، وقد تتراوح ردود الفعل بين الدبلوماسية المدروسة والانتقام العدواني، وربما تستهدف كنداوالمكسيك الصناعات الحساسة مثل الزراعة أو البنزين، حتى تشعر قاعدة ترمب بالضائقة، وهناك خيارات قانونية أيضاً، فبوسع كنداوالمكسيك أن يستخدما آليات حل النزاعات المنصوص عليها في اتفاق الولاياتالمتحدةوالمكسيكوكندا أو منظمة التجارة العالمية، وكلا المكانين يوفران سبلاً لتحدي ممارسات التجارة غير العادلة، إلا أن هذه الممارسات قد تكون بطيئة الحركة وغير مؤكدة في نتائجها، وقد تكون عرضة للتجاهل. ربما يكون الخيار الأكثر معقولية بالنسبة للشركات في كنداوالمكسيك هو تنويع علاقاتها التجارية لتقليل الاعتماد على السوق الأميركية، ولكن الحقائق الجغرافية والقاعدة الكبيرة من المستهلكين في الولاياتالمتحدة تعني أن هذا أسهل قولاً من الفعل، ويبدو أن احتمال اندلاع حرب تجارية أوسع نطاقاً يلوح في الأفق، وربما يكون هدف ترمب في الأمد القريب هو الاستفادة من التعريفات الجمركية كأداة لتأمين التنازلات من ولايات قضائية أخرى، ونعتقد أن الحرب التجارية في أميركا الشمالية قد تكون مجرد نذير للأحداث القادمة والتي تتنوع بين ضرر اقتصادي كبير، وتآكل الثقة بين الشركاء التجاريين، وزيادة التقلبات في الأسواق العالمية. د. خالد رمضان