إن القول بأن قوة وسلطة الخطاب الديني تكمن في كونهِ أداةً للتواصل والتعبير فحسب قد تخالف الحقيقة المرتهنة بها؛ لأن قوة الخطاب الديني وسلطته تتجلى في عمقه وجوهره الذي يشكِّل منظومةً رمزية شديدة التعقيد، تتداخل فيها الأبعاد الوجودية والمعرفية والأخلاقية، وتُعبر عن جانبٍ مهم من محددات الهوية التي يجري تعريفها في الكثير من الأحيان بهذه الخلفيات الدينية المرتبطة بهذا الخطاب. وهو عدا عن كل هذا؛ جزءٌ أصيل من ميثاق الدول والمجتمعات التي قد تتضمن دساتيرها إبراز نوعِ هوية خطابها الديني وتوجهاتها العقائدية، لضمان تلك الحالة من التوافق بين هويات الأفراد والبنية الاجتماعية والأيديولوجية والتاريخية التي على أساسها يجري تحديد طبيعة الدولة والنظام والحكم، دون أن يعني ذلك طبعًا أن تتحول هذه الهوية إلى أن تكون إقصائية في علاقتها بباقي أنماط الخطابات الدينية الأخرى. ولأن هذا التوافق بين الهويتين، يجري ضمانه وحمايته وتطويره، ضمن إطار «الدولة الوطنية»، بمؤسساتها السيادية الثابتة والمستقرة، التي تُجيد تدبير الخطاب الديني ضمن إطار مؤسسات الدولة، وتعمل على تجاوز أي شرخ من شأنه كسر هذا التوافق. فإن التحدي يُطرح بالأساس خلال أوقات الأزمات الكبرى، وحين تنهار الدول وتتفكك الهياكل الاجتماعية، ويزداد مفعول حضور الخطاب الديني بوصفه وسيلة لتفسير الواقع، ومنصة لإعادة إنتاج المعنى المفقود، لأنه ضمن هذا السياق المشحون بعناصر الأزمة، تتزايد احتمالات وفرضيات حدوث حالة من التلاعب بقوالب ومقدمات ونتائج هذا الخطاب، بالتوازي مع حالة فقدان البوصلة السياسية والأمنية، الناشئة عن انهيار الدولة المركزية، وما ينشأ عنها من فوضى، ومن تغييب لشروط العدالة الاجتماعية والأمن والاستقرار، وهي الوضعيات التي تنفتح في سياقها أبواب التأويلات المفتقدة لضوابط وشروط القول المؤسساتي والديني، والتي تنتهي في غالب الأحوال، إلى صعود تأويلات متطرفة للنصوص المقدسة، ومعها تأويلات تُعيد إنتاج الواقع من خلال عدسات أيديولوجية صارمة. ولأن الخطاب الديني الذي هو في جوهره، يُفترض أن يكون أداة للتحرر المعنوي وفضاءً رحبًا للتأمل والإجابة عن أسئلة الإنسان الوجودية والأخلاقية، ومعها عدد من مواثيقه الاجتماعية والتواصلية، إلا أنه في لحظات الأزمة يتحول إلى إنتاج بنية شديدة التعقيد من التجاوزات والمآزق. أولها أنه يصبح بمقتضى هذه الفوضوية مدخلًا لساحة نزاع سلطوي، حيث يتنافس الفاعلون السياسيون والأيديولوجيون على احتكار تفسير النصوص الدينية وتوظيفها لخدمة أهدافهم. هنا؛ لا يعود النص المقدس نصًا مفتوحًا على تعددية التأويل، بل يتحوّل إلى خطاب مغلق، أحادي، يُوظف بشكل براغماتي لإنتاج الطاعة وشرعنة العنف، الذي يفترض فيه أن يكون حكرًا على مؤسسة الدولة الوطنية، وهذا التلاعب لا يحدث من خلال النصوص الدينية ذاتها، بل من خلال التأويلات التي تُفرض عليها، حيث يُقدّم «المفسر الأيديولوجي» نفسه بوصفه الناطق الشرعي باسم النص، مما يُلغي أي فرصة لإنشاء توافق يعبر بصدق عن تطلعات المواطنين ورغباتهم وانتماءاتهم. ثم إنه من ناحية ثانية؛ يكون المدخل نحو صناعة «الدولة الهشة» حيث يهيمن الفقر، ويتفشى الجهل، وتغيب العدالة، ويتعاظم تأثير الخطاب الديني المتلاعب به، فالأفراد الذين يعانون من التهميش السياسي والاقتصادي يجدون في هذا الخطاب وعودهم الجاهزة والزائفة، القائلة بالخلاص الفردي والجماعي. وبهذا المعنى، لا يُقدم الخطاب المتطرف نفسه بوصفه أيديولوجيةً مجردة، بل كإطار شامل يفسر المعاناة ويعد بالخلاص، حتى وإن كان هذا الخلاص يتجسد في شكل عنف دموي أو تضحية ذاتية عبثية. وفي مثل هذه الأوضاع، يُعاد إنتاج النصوص الدينية ضمن سياق مشحون باليأس والغضب والخوف، فتتحول الشعائر والمعتقدات إلى أدوات للتعبئة العاطفية والتحريض على العنف، وتكون خطورته في كون هذا التلاعب لا يستهدف فقط السيطرة على السلوك، بل يستهدف ما هو أعمق من ذلك، وتحديدًا إعادة تشكيل وعي الأفراد بطريقة تجعلهم غير قادرين على مساءلة السلطة الأيديولوجية التي تقودهم. فقدان هذه البوصلة وتَمَكُّن الهشاشة من مفاصل الدولة، يقودان إلى مأزق ثالث، يتجلى في التأثيرات المباشرة لأزمة التلاعب بالخطاب الديني على البنية النفسية للأفراد، ومعه احتمالات الخوف والهوس والانفصامات الجماعية، إذ يعمل هذا التلاعب خاصة إذا ما حقق رهاناته الخبيثة، على تحفيز «القلق الجمعي» من خلال استثارة الغرائز الأساسية: الخوف من الآخر، والرغبة في الانتماء لهذا المجهول، والشعور بالتهديد الوجودي. هذه المشاعر تُشكّل البنية النظرية التي تقوم عليها الأيديولوجيات المتطرفة، لأن الفرد، في هذه الحالة، يفقد قدرته على التفكير المستقل، ويصبح جزءًا من «وعي جماعي» زائف، ومجرد أداةٍ ضمن حزمةٍ من الأدوات المتعددة التي تستجيب بشكل آلي للأوامر والتوجيهات القادمة من القيادة الأيديولوجية. وتتعاظم الأزمة في مثل هذه التجارب، حين يصبح القائد الديني أو السياسي في هذا السياق لا يُقدّم نفسه بوصفه زعيمًا دنيويًا، بل كناطقٍ باسم المقدّس، مما يجعل مساءلته أو انتقاده أمرًا محاطًا بجملة من الشروط الأخلاقية والدينية، وتُغلقُ مع هذه الاستحالة أي إمكانية للحوار العقلاني أو التفكير النقدي. يتعدى هذا التلاعب هذه المستويات والمآزق السابقة، إلى مستوى رابع، يكمن في إفقاد المتأثرين والتابعين والمُنجرّين، القدرة على الحكم والتقييم الموضوعي للخطاب ومفعولاته، وهو ما ينتهي إلى مصيبةٍ كارثية، حيث يصبح هذا التلاعب بوابة لإنتاجِ ما يسمى بِ «الطاعة العمياء»، وهي مرحلة التعميم المطلق لغياب المعايير الأخلاقية والإنسانية، وسطوة الخطاب «السائب»، الذي من شأنه إعادة تعريف الواقع والتاريخ والمستقبل، على مقاس «الباثولوجيا الأيديولوجية» للناطق الجديد باسم الخطاب الديني، وتتحول بموجب هذه الردة النصوص الدينية، التي يُفترض أن تكون مرجعيات أخلاقية وإنسانية، إلى أن تُصبح مجرد بيانات لغوية وسيكولوجية مرضية في تبرير العنف والهيمنة. ويُعاد ضمن هذه الفوضى الخطابية تعريف القيم الأساسية مثل الخير والشر، العدل والظلم، حتى تصير متسقة مع الأجندة الأيديولوجية للمجموعة الحاكمة. وضمن هذه البيئة، يُلغى البعد الإنساني للنصوص الدينية، وتُختزل إلى مجموعة من الأوامر الصارمة التي يجب تنفيذها دون نقاش. المأزق الخامس يمكن تحديده في أنّ هذا النوع من التلاعب لا يُنتج مجرد أتباع مخلصين، بل يُنتج أيضًا مجتمعات مُغتربة عن نفسها ومنفلتة عن هويتها التاريخية والثقافية، وغير قادرة على تأمين استمراريتها واتصالها بمعانيها العميقة، بعد الفصل والكسر والبتر الذي أحدثته هذه الأيديولوجيات القاتلة التي تتغذى على الفوضى، بل وحتى الأفراد الذين ينخرطون في هذه المنظومة الجديدة، والذين يعتقدون -بفعل الاستلاب والغسيل الذي أقامه عرابو هذه الأيديولوجيات لعقولهم- أنهم يعيشون تجربة دينية أصيلة؛ بينما هم في الواقع يعيشون حالة اغتراب روحي وأخلاقي عميقة، لأن التجربة الدينية، التي يُفترض أن تكون فضاءً للسكينة والتأمل، تتحول في هذه الحالات إلى ساحة للصراع الداخلي والخارجي، حيث يُصبح الآخر المختلف تهديدًا يجب القضاء عليه، وتتحول الطاعة العمياء إلى فضيلة أخلاقية عليا. لكن السؤال الأكثر أهمية هنا: لماذا قد ينجح هذا التلاعب في تحقيق أهدافه؟ يكمن جزء مهم من هذه الإجابة في الواقع، ضمن فهم البنية الاجتماعية والسياسية التي تسمح بحدوثه، فالفقر والجهل وغياب العدالة ليست مجرد أزمات عابرة، بل هي عوامل بنيوية تخلق بيئة مثالية لنمو التطرف. وفي هذه البيئة تحديدًا، يُصبح الخطاب الديني المشوه هو القناة الوحيدة التي يجد فيها الأفراد معنىً لحياتهم، حتى وإن كان هذا المعنى وهميًا وساذجًا. وعليه؛ فإن مواجهة هذا النوع من التلاعب لا يمكن أن تتم عبر الحلول الأمنية ولا النصائح العامة الجاهزة فقط، بل يجب أن تتضمن مقاربة شمولية تستهدف إعادة بناء البنية الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية. إن تطوير عمل المؤسسات التعليمية والمنظومات التربوية في كل مراحلها، وجعلها تستجيب لشروط البناء المعرفي والنفسي والاجتماعي والأيديولوجي، المنسجم مع مقومات الدولة الوطنية وهويتها الدينية والتاريخية والثقافية، يُعد الخطوة الأولى في مواجهة هذا التلاعب، مع ضرورة أن تكون هذه المنظومات التربوية متوافقة أيضًا مع طبيعة الخطاب الديني الذي ترعاه مؤسسات الدولة، باعتبارها وحدها من يحق لها تدبير وإدارة الاجتهادات الفقهية، وإصدار الفتاوى والأحكام الدينية، وأن تتكفل وحدها أيضًا بإدارة هذا الحق في الاختلاف، تفاديًا من جهة أولى لمأزق إطلاقية الأحكام الدينية، التي تصبح بمقتضى الاجتهاد الذي ترعاه الدولة من خلال مؤسساتها منفتحة ومضيافة، ويتقبل بعلمية ومسؤولية استمرارية تحديث القراءات الفقهية للنصوص المقدسة متى تطلب السياق، وضمان أن يبقى هذا الخطاب بابًا من أبواب ترسيخ التسامح والحوار وتدبير التعدد والاختلاف، لا مجرد أداة لتبرير العنف والفوضى أو ترسيخ السلطة المطلقة، ومن جهة ثانية لضمان عدم «تَسيُّب»الخطاب الفقهي والأحكام والفتاوى الدينية، وتحولها إلى مجال مفتوح للآراء الشخصية والأهواء الأيديولوجية، وضمان أن تكون المؤسسات العلمية الرسمية، هي وحدها من يخول لها المشاركة في الاجتهاد وإصدار الأحكام والفتاوى والتعديلات إن وجدت. إن تفكيك آليات التلاعب بالخطاب الديني يتطلب وعيًا جمعيًا يُدرك أن الدين ليس ساحة للصراع السياسي، بل هو تجربة إنسانية تسعى إلى تعزيز القيم الأخلاقية والإنسانية، وهي الخلاصة التي بمقتضاها يجوز إطلاق الحكم النهائي، للقول إن مواجهة هذا التلاعب ليست مجرد معركة فكرية أو سياسية، بل هي معركة وجودية تحدد شكل المجتمعات ومستقبلها، لأن التلاعب بالمقدس لا يُفسد فقط النصوص الدينية، بل يُفسد الإنسان وبيئة الاعتدال التي تحتضن الاختلاف والتعدد، ويُعيد تشكيله ليُصبح أداة في يد صراعات لا تخدم سوى قلة من المتعصبين، ممن يجيدون التلاعب بالعقول وتسييج الفكر والسطو الأيديولوجي. * باحث سعودي