الحنين النوستالجي يربط الناس بأوطانهم لأنه يحتفظ بذكرياتهم، ويسهم في تعزيز هويتهم وانتمائهم الوطني، علاوة على استثماره في الإعلانات بالدندنة على وتر ذكريات الطفولة لزيادة المبيعات، وقد يستغل في تمرير أفكار سلبية عن الدول المعادية والأقليات العرقية، وبالأخص في أوقات الأزمات، ولكنه مفيد جداً كآلية دفاع نفسي، وخصوصاً في مواجهة التوترات والتعايش معها، ولابد من التفريق بين الحنين الصحي واجترار الماضي المرضي.. النوستالجيا في الحالة العربية ليست جيدة دائماً، لانها ساهمت نسبياً في ايقاظ التطرف والارهاب، خلال فترة مضت، وفيما سبق حنين لطريقة حياة لن تعود أبدا، وفي نوفمبر 2024 نشرت بيكا روثفيلد في صحيفة واشنطن بوست، انها مرض عالمي بلا علاج، فقد استخدمت في الغالب لخدمة مصالح سياسية، ومن الأدلة، حنين الناس في الكتلة الشرقية السابقة ورغبتهم في استعادة ايام الشيوعية التي عايشوها في شبابهم، ومعها خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي عام 2016، ضمن ما يعرف باتفاقية البريكست، وتفسيره باعتباره تعبيرا مباشرا عن حنين الانجليز لماضيهم، ومن توظيفاتها الاعلامية المدروسة قناة تلفزيون روسية اسمها نوستالجيا، وشعارها المطرقة والمنجل، في احالة لحقبة الاتحاد السوفيتي السابق، وقد تم تأسيسها في 2004، وبثها موجه لدول كالولايات المتحدة والمانيا، بوصفها مناطق هجرات كبرى لمواطني أوروبا الشرقية، وفيها برامج حوارية وافلام وثائقية، يعود تاريخها لعشرات الاعوام، لاستمالة هؤلاء وتحفيزهم. بالاضافة الى ان 66% من الشعب الروماني قالوا منذ مدة إنهم سيصوتون لرئيسهم الشيوعي الأسبق، نيكولاي تشاوشيسكو، لو كان حياً، والرجل حكم رومانيا بالحديد والنار في 1967، ولم يقبل بوجود معارضة، وهدم معظم الاحياء والقرى الرومانية القديمة، واجبر الناس على زيادة النسل، وسياسته غير الموفقة، تسببت في تشريد مليوني طفل في الشوارع، واتهم نظامه بالفساد والاختلاسات، وتم اسقاطه واعدم في 1989، ومع ذلك أكثر من ثلثي سكان رومانيا الحاليين، يقولون انهم لن يترددوا في انتخابه مجدداً، في مزج غير مفهوم بين النوستالجيا ومتلازمة ستوكهولم، والثانية تعني غرام الضحية بالجلاد، وينظر المختصون لهذه المسألة، من زواية ان ذاكرة النوستالجيا انتقائية، وانها تحذف وتضيف وتجمل الأحداث، ولا تعرض الواقع القديم بكامل تفاصيله. الحنين للماضي أو النوستالجيا تتعرض دائماً لسوء الاستخدام، والاشكالية تبدو في ان الاشخاص في الازمنة المختلفة يعتقدون ان من سبقوهم كانوا أفضل حالاً، وهو تصور مغلوط بأقل تقدير، ومن الأمثلة عليه، الفيلم الاميركي (ميدنايت إن باريس) الذي عرض في 2011، وفيه يتحقق حلم الكاتب وبطل الفيلم في العودة بالزمن لباريس في عشرينات القرن العشرين، ومقابلة ارنست همنغواي وبيكاسو وسيلفادور دالي، وقد كان يظن انها تمثل قمة المجد الفني والادبي، الا ان الشخصيات السابقة خالفته، ورأت المجد في اواخر القرن التاسع عشر الميلادي، ليذهبوا اليه معاً، ويلتقوا بجون لوغن وإدغار ديغا وغيرهم، من اساتذة الرسم الفرنسي، والمفاجأة انهم بدورهم كانوا يعتقدون ان الزمن الاجمل والاروع حدث منذ ثلاث مئة عام، وتحديدا في عصر النهضة ورموزها، ما بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، والنتيحة التي خرج بها الكاتب ان الكل يحن الى ماضيه، في نوستالجيا لا تنقطع، والفيلم مثل شخصية الكاتب فيه النجم الهوليودي أوين ويلسون، وانتجه واخرجه الاستثنائي وودي آلن. الثابت علميا ان خلايا الانسان تتجدد بالكامل في مدة لا تزيد على سبعة أعوام، والمعنى أن الشخص يصبح نسخة محدثة من نفسه، وبحسب أساتذة علم النفس العصبي فإن ما يربطه بالنسخ الأقدم منه ويحول بينه وبين اضطراب الهوية، هو النوستالجيا أو الحنين للماضي، ومن النماذج العملية انه في مرحلة الثورة الفرنسية ارتبط الفرنسيون برموز الامبراطورية الرومانية، ولدرجة لبس الفرنسيات للزي الروماني المعروف باسم "توغا"، ونقش صورة هرقل على العملات المعدنية، وكلها تصرفات استهدفت منح اليقين والتوازن لهم، وذلك باسترجاع الماضي الذي لا يتغير، وفي المقابل، الحركة الفاشية التي بدأها موسوليني في ايطاليا، جاءت من الكلمة الرومانية (فاشيز) ومعناها الفأس القديم، وقد استخدمه الرومان كرمز لسلطة القضاء والقانون، وهو لم يكن يرغب في استعادة أمجاد روما التاريخية، وإنما إلهام الايطاليين لبناء دولتهم، ويظهر انه اضاع البوصلة في مرحلة من حياته. الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فقد قامت ماري ميتلمان أستاذة علم النفس في جامعة نيويورك عام 2011، بإحضار مجموعة من الاشخاص ممن يعانون الخرف، وطلبت منهم أداء أغانٍ قديمة ومألوفة، ولاحظت انهم، وبعضهم يصعب عليه الكلام، بدأوا في تذكر وترديد الكلمات والالحان، والسابق فتح الباب لاستخدام الموسيقى الاسترجاعية، كأداة فاعلة في معالجة هذا المرض، وقد وجدت دراسة ثانية نشرت في 2022 ان الكتابة عن حدث يثير الحنين، ولمدة دقيقتين اسبوعيا، توفر غطاءً نفسيا فاعلا في مواجهة الازمات الصعبة والمربكة. الحنين النوستالجي يربط الناس بأوطانهم لأنه يحتفظ بذكرياتهم في أركانها وزواياها، ويسهم في تعزيز الهوية والانتماء والولاء الوطني، مثلما يحدث في يوم التأسيس السعودي، علاوة على استثماره في الإعلانات بالدندنة على وتر ذكريات الطفولة لزيادة المبيعات، وقد يستغل في تمرير أفكار سلبية عن الدول المعادية والأقليات العرقية، وبالأخص في أوقات الأزمات، ولكنه مفيد جداً كآلية دفاع نفسي، وخصوصاً في مواجهة التوترات والتعايش معها، سواء على المستوى الشخصي أو المجتمعي، ولابد من التفريق بين الحنين الصحي واجترار الماضي المرضي.