يُهدي الفجر لنا أجمل أوقاته، فتتبدى خيوطه منسدلة نحو هذا الوجود بوجهه الباش والمبتسم، جالباً لنا معه حالة من السعادة والسرور، ومُنطَلقاً ليوم جديد، ملامح وجه الفجر توحي بمطالع العمر ويُفوع الشباب، والغروب هو الآخر يعلمنا الدرس الذي يتكرر كل يوم دون أن نعيه، وفي ملامح وجه الفجر ومطالعة السّارة لا نكاد نلبث بعض الوقت حتى يعم عنفوان الضحى وانطلاق الحياة في تسارع ومعاجلة حين تغدو الناس لمعايشها، ثم يأتي الزوال والعصر الذي تذبل فيه الشمس إيذاناً بالغروب، وهكذا دواليك يمضي الوقت ويتصرّم الزمن، وما يستوقفني دائماً حد الدهشة والذهول هو ملامح من وجهي الفجر والغروب بكل تفاصيلهما التي توحي بدلالات معرفية كثيرة مرهونة بحالة التدبّر وإمعان النظر ونورانية العقل الواعي والحكيم، وقد وقف العرب الأوائل أمام هذه التمظهرات والتحولات وتغنى بأوقاتها وملامحها معظم الشعراء، وقد يكون من أبرزها بعد وجه الفجر هو وقت الغروب حين يتناثر الشفق في أفق السماء وقرص الشمس متناصفاً في استدارته وتراه يتلاشى سريعاً والشمس تجري لمُستقرٍّ لها، وينسدل رداء الليل إيذاناً بالعَتمة والغلس، مما ينفي ثبوت الزمن ويؤكد أن الحياة هي الوقت بكل مراحلها من لحظة الميلاد إلى الممات، والوقت هو الزمن الذي يستحق أن نعمل عليه ونعيشه ونستثمره فيه، من يتدبر معي يعيش جانبًا معرفيًا وحالة استبصار لهذا الوجود بنواميسه المختلفة، الأمر الذي يؤكد حضورك الوافر في هذه الحياة وخلاف ذلك سيكون غيابك التام عن هذا الوجود، ولا يغِيب الإنسان عن كل هذا المحيط المكتظ بمعارفه وآياته إلا حين يُغَيّب ذاته ويطمس وجوده بتمييع قدرات عقله بعوامل صدّ عامدة لا تعرف أن تُفرق بين العمى والبصيرة، وهنا يتضح عجزه عن توكيد كيانه، لأنه ابتعد عن كل ملامح هذا الوجود بقراءته المختلفة وشواهده المتنوعة التي هي في واقعها ناظمة لملامح الزمن بين وجهي الفجر والغروب. إن تلك المحطات الزمنية هي أوقات ملهمة ومحطات وامضة لمن يتأمل سيرورة الوقت لا سيما من هو حاذق فطن لأبعاد الأوقات المختلفة وفكرة الزمن التي نعيشها آناء الليل وأطراف النهار، ليمضي بها نحو تشابك عرفاني حكيم وتصالح مع ذاته. ومع بني الإنسان والحياة وكل هذا الوجود، فيشعر الإنسان بتآلف مع الوقت والزمن ليتمثّل في كيان واحد، حيث من الصعب بل من المحال أن يعيش كل طرف بمنأى عن الآخر، فلا يستطيع الإنسان أن يعيش خارج إطار الزمن بتشكلاته وأيامه وشهوره، ولا يمكن للزمن أن يكون زمناً خارج إطار تعريف الإنسان ومعايشته له بمفاصله ومراحله وفصوله وسنواته، وإلا سيمضي سرمدياً لا يعرف له أوقات ولا مراحل ولا أيام أو قرون، على رأي أهل الكهف في السؤال المدهش والمثير حين غاب الزمن عنهم (كم لبثتم قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم)، وحين فُقد الزمن فُقِدت المعرفة وحساب الوقت. جماع القول، إن بمقدار معرفتنا للوقت وسيرورة وصيرورة الزمن وتباين اللحظات التي تفصل بين لحظة وأخرى نستطيع أن نمسك بزمام الزمن ونعي قدّرِه ونعرف حجمه ونعيش لحظاته، وندرك تنوعه الذي يجمع بين نور يتلاشى إلى الظلمة، وظلام يبدده النور، في حركة دائبة ومستمرة لا تنقطع بتحوّلها المتتالي، وبمقدار تفريطنا في (ملامح من وجهي الفجر والغروب) تتلاشى معارفنا ونفقد خبرتنا الجمالية وذائقتنا الفنية وتنضب قدرة قراءتنا النقدية ويسقط الحساب ويضيع منا الوقت وتنتهي مسافات الزمن الذي يتراوح بين ثنائية الليل والنهار.