تتسارع وتيرة التقدم التكنولوجي، يرافقها تحوّلات اقتصاديّة كبرى يشهدها العالم تستدعي التوقف عندها، بفعل التطور السريع لتقنيات الذكاء الاصطناعي (AI)، هذا الابتكار المذهل، الذي يعدّ أحد أهم الابتكارات في القرن الجديد التي من شأنها التأثير على مختلف قطاعات الاقتصاد، وفرص التصنيع، والسعي الحثيث لضخ مزيد من الاستثمارات في استغلال هذا الابتكار الجديد. جاء الذكاء الاصطناعي في وقت تتجه فيه الدول الكبرى للاقتصاد الرقمي، وتحليل البيانات وترجمتها؛ لاستخدامها في توقع متغيرات الأسواق المحليّة والإقليمية والعالميّة، مؤثراً في مناحي الاقتصادات العالمية، حيث يشمل ذلك التأثير المنافسة مع الأيدي العاملة، التي باتت مهددة في وجوده، مما يستدعي تطويراً وتأهيلاً في إمكانات العنصر البشري؛ ليصبح قادراً على التعاطي مع مخرجات الفترة الراهنة والمستقبلية، كما يؤثر الذكاء الاصطناعي في كميات ونوعياتها وارتفاع معايير الجودة، بدءًا من تطوير الكفاءة التشغيلية، ومرورًا بخلق وتغيير أسواق العمل وطبيعة ونوعية الوظائف، وكذلك منح القدرة للاقتصادات الناشئة القدرة على استغلال إمكاناتها بالتعاون مع الذكاء الاصطناعي؛ لترفع مدخلات الصناعات الوطنية، من حيث الكم والكيف، مع الأخذ في الاعتبار الحفاظ على القوة البشرية وعدم التفريط فيها؛ لأن ذلك قد يخلق فجوة بين العوائد الاقتصادية وتلبية الاحتياجات الاجتماعية المتمثلة في خلق فرص وظيفية لخريجي المراحل التعليمية المختلفة، فيجب استغلال الذكاء الاصطناعي ومخرجاته من الزيادة الإنتاجية والحد من التكاليف الباهظة، في إعداد الكوادر البشرية وتعليمها وصقلها بالمعرف التقنية المتقدمة. معايير أخلاقية مهمة تبقى العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والاقتصاد علاقة معقدة، وربما شديدة الخصوصية، ففي الوقت الذي يستطيع أن يحدث ثورة تقنية صناعية في مختلف القطاعات، لكن في الوقت نفسه يتطلب تفكيرًا معمّقًا وجديًّا حول كيفيّة مواجهة التحديات المتعلقة بسوق العمل، والحفاظ عليها، دون أن ننسى الاعتبارات الأخلاقيّة لتحقيق المنفعة الكاملة من هذه التقنية، دون المساس بالضوابط الأخلاقيّة والاجتماعيّة، ولكن تبقى التحديات الأخلاقيّة والاقتصادية للذكاء الاصطناعي قائمة، فكيف يمكننا أن نواجه تلك التحديات المتمثلة في المساواة بين مختلف العناصر المكونة للاقتصاد، فالشركات العالميّة الكبرى التي تمتلك موارد ضخمة، ستصبح قادرة على تبنّي وتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، وهو ما يجعلها أكثر هيمنة على السوق، ويزيد بالتالي من فجوة التفاوت الاقتصادي بين الشركات الكبرى والشركات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر من جانب، وبين الدول المتقدمة والدول النامية عامة بشكل أكثر عمومية. ومن أخطر التحديات، قضايا الأمن وانتهاك الخصوصيّة؛ لأن استخدام الذكاء الاصطناعي لبيانات ومعطيات شخصيّة قد يعرّضها للقرصنة الإلكترونيّة إذا لم يتم بناء نظام أمن إلكتروني قوي وأمن سيبراني على مستوى الدولة نفسها، وسياسات تحكُّم لجعل الأمور دائمًا تحت سيطرة العقل البشري، فإذا كان الذكاء الاصطناعي سيحدث ثورة في مختلف الصناعات والقطاعات، فإن الأمر يتطلب تفكيرًا استراتيجياً حول كيفيّة مواجهة التحديات المتعلقة بسوق العمل، والاعتبارات الأخلاقيّة، إضافة لمشكلة الاعتماد المبالغ فيه على الذكاء الاصطناعي في اتخاذ القرارات عند البعض وتعد تحديات أخلاقيّة مهمة، تتعلق بتحديد من يتحمل المسؤوليّة عند الخطأ، أو فيما يُتّخذ من قرارات غير عادلة، لأنها تم بناؤها على لغة قاعدة البيانات، بعيداً عن الاعتبارات الإنسانية. فلسفة تحليل البينات والعنصر البشري تعد أبرز إيجابيات الذكاء الاصطناعي قدرته على التعامل مع تحليل البينات بسرعة تفوق قدرة العامل البشري، فيصبح ذلك مؤشراً على قدرته في زيادة الإنتاج؛ لمعرفته بما يحتاجه المستهلك في جميع النواحي، على نطاق الشركات أو الدول، كما سيساهم في فتح أسواق جديدة لقدرته على خفض التكلفة مع تعظيم الجودة وفقاً للمعايير العالمية، وسيجعل الاقتصادات في حالة تنافس دائم، من خلال قدرته على تحليل البيانات بسرعة وبدقة عاليتين، لذا سيتمكن الذكاء الاصطناعي خلق فِكَر جديدة، وتوقعات ترتكز على أنماط سابقة، ربما لم يكن بالإمكان اكتشافها بعد، ويمتد تأثيره ليشمل الصناعات التحويليّة، والصحيّة، والتعليمية، والبحث العلمي، والماليّة، والنقل والمواصلات، والاتصالات السريعة والجيدة؛ متنبئاً بالأوضاع الاقتصاديّة في المستقبلَين، القريب والبعيد، فيجب أن يتم استغلال قدرات الذكاء الاصطناعي في توفير وظائف نوعية بعوائد جيدة، وهذا ما تتجه له بقوة المملكة، في تسخير تلك الإمكانات لتحقيق نهضة تنموية شاملة أساسها الإنسان، من خلال خلق فرص وظيفية راقية جديدة تتطلب مهارات عالية في مجالات البرمجة، وتحليل البيانات، وهندسة الروبوتات والبرمجيات، لذا فإنّ مستقبل الاقتصاد يعتمد إلى حد لا بأس به على قدرة المجتمعات على التكيف مع هذه التغيرات، من خلال الاستثمار والتدريب في مجال الذكاء الاصطناعي في الشركات والمدارس والجامعات. جهود المملكة عابرة للحدود تخطط المملكة لإطلاق مشروع جديد في مجال الذكاء الاصطناعي تحت اسم «Project Transcendence» بدعم يصل إلى 100 مليار دولار، بهدف تطوير مركز تكنولوجي، الذي يقوم بالاستثمار في مراكز البيانات والشركات الناشئة والبنية التحتية اللازمة لتطوير الذكاء الاصطناعي، مع التركيز على استقطاب المواهب إلى المملكة، وتطوير البيئة المحلية للتكنولوجيا، وتشجيع شركات التكنولوجيا العالمية على توجيه مواردها إلى السوق السعودية، إضافة إلى التصنيع المستدام المدعوم برأس مال100 مليار دولار من صندوق الاستثمارات العامة، فيما تقدر الاستثمارات الخاصة ما بين 5 مليارات و10 مليارات دولار في الشراكة، التي تشمل العمل على إنشاء نماذج الذكاء الاصطناعي باللغة العربية. الناتج المحلي من المتوقع أن يسهم الذكاء الاصطناعي بما نسبته 12 % من الناتج المحلي الإجمالي للمملكة بحلول 2030، وأن ينمو القطاع بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 29 %، وفقاً لتقرير حالة الذكاء الاصطناعي الصادر عن «الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي»، في الوقت الذي حصلت فيه المملكة على إشادات عالمية في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث حققت المركز ال14 عالمياً والأولى عربياً في «المؤشر العالمي للذكاء الاصطناعي» المعتمد من منظمة الأممالمتحدة من بين 83 دولة في العالم، وفي 2023 جاءت الأولى في مؤشر «الاستراتيجية الحكومية للذكاء الاصطناعي»، والثانية في مؤشر «جاهزية الحكومات للذكاء الاصطناعي» على مستوى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتحرص المملكة على تسخير إمكانات الذكاء الاصطناعي؛ لتنويع وتعزيز الاقتصاد في قطاعات حيوية مثل الرعاية الصحية، والطاقة، والتعليم، كما تعمل على إرساء ثقافة الابتكار التكنولوجي في المجتمع، إضافة لدورها في تعزيز الشراكات الاستراتيجية مع كبرى شركات التكنولوجيا العالمية، لخلق بيئة داعمة للابتكار في المملكة، مما يعزز مكانة السعودية بصفتها قوة رئيسة فاعلة في هذا المجال على الصعيد الدولي. نتيجة لهذه الجهود أصبحت المملكة أنسب مكان للاستثمار في التقنيات والابتكارات، لذلك حرصت 120 شركة عالمية على نقل مقراتها الإقليمية إلى السعودية وزادت نسبة رؤوس الأموال بنسبة 50 %، في ظل اعتماد المملكة على اقتصاد بعيد عن النفط الذي وصل إلى 20 %، ومن ثم زادت الاستثمارات في القطاعات غير النفطية بنسبة 70 %، لتشكل 53 % من الناتج المحلي. المكانة العالمية تتواصل جهود المملكة في تحقيق تطلعاتها نحو الريادة العالمية، كجزء مهم من رؤيتها الطموحة 2030, التي تعمل على مواكبة التحولات التي غيرت المشهد الاقتصادي التنافسي العالمي، الذي دفع بالدول والمؤسسات الكبرى في استشراف المستقبل، من خلال التطورات التي يشهدها العصر الحالي، ومن أهمها على الإطلاق تقنيات البيانات والذكاء الاصطناعي، التي أثرت في الكثير من مناحي الحياة العلمية والاقتصادية، بل والاجتماعية، وجعلت العالم يتجه صوب تبني هذه التقنيات المتقدمة وتسخير قدراتها وإمكاناتها لإحداث أثر وتأثير مستدام من خلالها ومنها المملكة التي دخلت هذا المجال بقوة دفع استراتيجية، من خلال رؤية 2030، فقد عملت من خلال الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي «سدايا»- التي أنشئت بأمر ملكي عام 2019م - على المضي قدمًا في مجالات البيانات والذكاء الاصطناعي والاستثمار في فرصها الواعدة وثرواتها المعدنية والطاقة المتجددة، وبناء القدرات الوطنية فيها، بعد أن فتحت آفاقًا كبيرة في مجالات التنمية المختلفة مثل: الصحة والتعليم، والصناعة، والطاقة، والإعلام، بل والثقافة والفنون، في تحقيق جودة الحياة للإنسان على أرضها، والاهتمام بالجانب الأخلاقي – الذي سبق الحديث عنه - لتجنّب الدول والمجتمعات الفجوات والمخاطر المحتملة بما يضمن خدمة البشرية كلها على كوكب الأرض. وتسعى المملكة لمواصلة تقدمها في تقييمات المؤشرات الدولية في مجال البيانات والذكاء الاصطناعي وتوفير الإمكانات المتعلقة بالبيانات والقدرات الاستشرافية، وتعزيزها بالابتكار والاختراع في مجال الذكاء الاصطناعي؛ بما يضمن الارتقاء بالمملكة إلى الريادة ضمن الاقتصادات القائمة على المعلومات والبيانات والذكاء الاصطناعي لترسيخ مكانتها كنموذج عالمي يحتذى به، حيث عملت على تعزيز تبني الذكاء الاصطناعي في جميع الجهات الحكومية، ورفع مستوى الخدمات التي تقدمها للمواطنين والمقيمين وغيرهم، وزيادة الوعي العام حول هذه التقنية وما ينتج عنها. لقد أبرزت تقارير دولية الخطوات غير المسبوقة والتقدم الذي أحرزته المملكة في قطاع الذكاء الاصطناعي خلال السنوات الماضية بداية من عام 2019م حتى عام 2023م، في ظل رعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، ولي العهد، رئيس مجلس الوزراء، رئيس مجلس إدارة الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي -أيدهما الله– والدعم المتواصل والعمل على جعل المملكة في مصاف الدول العظمى في تقنيات الذكاء الاصطناعي، ونتيجة لذلك حققت المملكة مراكز متقدمة في المؤشرات العالمية ومنها المركز الأول عالميًا في مؤشر الاستراتيجية الحكومية للذكاء الاصطناعي، وفقًا ل «مؤشر الذكاء الاصطناعي العالمي «tortoise لعام 2023م، وحصلت المملكة على شهادة تميز المنتدى القمة العالمية لمجتمع المعلومات (WSIS) 2024م، ضمن فئة تطوير القدرات لبرنامج سدايا التدريبي في الذكاء الاصطناعي (Elevate)، كما حصلت على جائزة منتدى القمة العالمية لمجتمع المعلومات 2024م، ل(منصة استشراف وبنك البيانات الوطني) ضمن فئة دور الحكومات وجميع أصحاب المصلحة في تعزيز الاتصالات وتقنية المعلومات من أجل التنمية، وانضمت المملكة عام 2023م كعضو في الهيئة الاستشارية للذكاء الاصطناعي، بهدف استخدام الذكاء الاصطناعي بطريقة مسؤولة ومحوكمة وأخلاقية، محققة الترتيب الثاني على مستوى العالم في مجال الوعي المجتمعي، بعد أن كشف استطلاع للرأي عن ارتفاع معدل ثقة المواطنين السعوديين بالتعامل مع منتجات وخدمات الذكاء الاصطناعي في المملكة، وفقَا لتقرير مؤشر الذكاء الاصطناعي بنسخته السادسة (Artificial Intelligence Index Report 2023) الصادر عن جامعة ستانفورد الأميركية لعام 2023. دعم المواهب.. والبحث العلمي حرصت المملكة على أن تكون نداً في التنافسية العالمية لتمكين المواهب وتنمية القدرات البشرية، ورفع المعرفة بمجالات «الذكاء الاصطناعي» حيث بلغت نسبة الدراية بمفهوم الذكاء الاصطناعي (75 %) من العامة في المملكة، لدى (64 %) منهم معرفة بحالات استخدام الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته، وذلك وفقاً لنتائج استبانة سدايا لمستوى الوعي للعامة عام 2024م. أما في التعليم بلغت نسبة الجامعات السعودية التي تقدم برامج البكالوريوس ذات العلاقة بالذكاء الاصطناعي (86 %)، منها (42 %) تقدم برامج متخصصة في المجال، وفقًا لبيانات وزارة التعليم عبر منصة استشراف في عام 2023م، بلغ إجمالي عدد الخريجين الحاصلين على درجات علمية متعلقة بالذكاء الاصطناعي كعلوم الحاسب، أكثر من (38) ألف منذ عام 2019م حتى عام 2023م فيما أوضحت بيانات منصة (LinkedIn) أن متوسط معدل النمو السنوي لعدد العاملين الذين يمتلكون مهارات الذكاء الاصطناعي في المملكة بلغت نسبة (51 %) من عام 2018م إلى عام 2022م. وفي البحث العلمي ودعم الابتكار لتطوير قطاع «الذكاء الاصطناعي»، بلغت نسبة متوسط معدل النمو السنوي في عدد المنشورات العلمية في الذكاء الاصطناعي إلى (45 %)، وذلك من 2019م إلى عام 2023م حسب بيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، ووفقًا لبيانات الهيئة السعودية للملكية الفكرية فقد بلغت نسبة متوسط معدل النمو السنوي في عدد براءات الاختراع في المجال (50 %) وذلك من عام 2019م إلى عام 2023م. المملكة تسجل حضورها في المعارض المرتبطة بالتطور التقني تغير كبير بقطاع النقل مع الذكاء الاصطناعي