يشير مفهوم الإفراط في العلاج (overtreatment) إلى التدخلات والخدمات الصحية غير الضرورية ذات المضاعفات الأكبر أو الأقل منفعة، وأوضح مصاديق الإفراط في العلاج نجدها في مجال العمليات التجميلية، ففي ضوء التطور والتقدم الطبي والتسارع التكنولوجي في مجال الرعاية الصحية أصبحت العمليات التجميلية من أكثر التدخلات العلاجية شيوعاً في الوقت الحديث؛ حيث تحولت من تدخلات ترميمية علاجية إلى إجراءات تغييرية تجميلية، بحيث أدى هذا التحول إلى إنشاء معايير محددة في مفهوم الجمال العصري، وحذا بكثير من الناس إلى السعي لتحقيق تلك "المعايير" الجمالية، وإن بإجراء عمليات تجميلية دون الأخذ في الاعتبار المضاعفات الصحية المحتملة، وهذا يستدعي نهجاً أكثر مسؤولية من قبل مقدمي الرعاية الصحية، وفهماً أعمق لمفهوم "الإفراط في العلاج"، حيث يمكن أن تؤدي تلك التدخلات الجراحية غير الضرورية إلى مضاعفات صحية أخطر، وهذا ما نرى شواهده في حالات ماثلة في الإعلام من وقت لآخر، والأمثلة على ذلك كثيرة. إن الإفراط بالعلاج في التدخلات التجميلية قد لا تكون ذات ضرورة أو ملائمة للحالة المرضية، إنما هي فقط من أجل الربح والكسب المادي، وهذا بدوره يؤثر على جودة الرعاية الصحية ويقوّض من مصداقيتها ومهنيتها بتقديم المنفعة الشخصية والخاصة على المنفعة الصحية العامة للمريض، علماً أن نظام مزاولة المهن الصحية حدد واجبات الممارس الصحي العام على أن تكون لمصلحة الفرد والمجتمع والابتعاد عن الاستغلال ونص على "ألا يقوم بإجراء أي عمل طبي لا يحقق فائدة للمريض ولو لم يترتب عليه ضرر". والملاحظ أن بعض المنتسبين إلى القطاع الصحي الخاص يقوم بتسليع الخدمات الصحية باتباع استراتيجيات تسويقية تستهدف في المقام الأول الربح المادي للترويج لخدماتهم الطبية عبر مؤثري منصات التواصل الاجتماعي بمشاركة النتائج السريعة كصور الحالات -قبل وبعد- تؤدي إلى خلق رغبة عند المتابع للحصول على نفس نتائج هذا التحول السريع دون النظر الى النتائج الكلية، سواء كونها مؤقتة أو مخيبة للتوقعات، مما تستدعي تدخلات علاجية أخرى مرهقة للصحة والجيب. والمتابع لما ينشر في منصات التواصل يدرك مدى تأثير ذلك التسويق الموجه على رغبات وتفضيلات المتلقين الأمر الذي يجعل نتائج تلك التدخلات الجراحية والتجميلية مقياساً للجمال والقبول وتطغى على المشهد العام باعتبارها "ترند". من المهم في هذا السياق التوضيح أن الأنظمة واللوائح تمنع الممارسين الصحيين من الإعلان والدعاية لأنفسهم -سواء مباشرة أو بالوساطة- حيث تنص المادة العاشرة من نظام مزاولة المهن الصحية على أنه "يحظر على الممارس الصحي الإعلان عن نفسه والدعاية لشخصه مباشرة أو بالوساطة". وجاء في اللائحة التنفيذية لنظام مزاولة المهن الصحية "الامتناع عن أساليب الدعاية والإعلان بمختلف الوسائل كالإعلان عن نفسه، أو القيام بإعلانات ذات طابع تجاري غير مبنية على أسس علمية أو تتعارض مع أخلاقيات المهنة". كما أن دليل ضوابط المحتوى الإعلاني في القطاع الصحي الذي يهدف لحماية حقوق المستفيدين من الخدمات الصحية؛ حظر الإعلانات التي تحتوي على "التشجيع على الاستخدام المفرط للخدمات الصحية بطريقة عشوائية أو غير ضرورية أو غير ملائمة بشكل مباشر أو غير مباشر". وهنا الحديث ليس فقط مركز على العمليات التجميلية من التدخلات الطبية، بل على مفهوم الإفراط في العلاج؛ من تدخلات وخدمات طبية غير ضرورية. اليوم؛ وفي ظل ازدهار الصحة العامة، بدأت كثيرٌ من أنظمة الرعاية الصحية في العالم تتجه نحو نموذج مالي يركز على نتائج القيمة الصحية لا على الكلفة المالية، أي أن دفع المال (الأجرة والقيمة) لمقدمي الرعاية الصحية -الأطباء، المستشفيات- يتم حسب نتائج الرعاية الصحية المقدمة للمرضى، وهو ما يضمن جودة الرعاية الصحية المقدمة، ويسهم في الحد من الافراط في العلاج، وفي ضوء التحول الوطني في قطاع الصحة اعتمد هذا النهج كأحد استراتيجيات الضمان الصحي السعودي. ومن أنجع الوسائل التي تُذكر للحد من الافراط في العلاج هي سهولة تبادل المعلومات الصحية عن المرضى بين أطراف القطاع الصحي، وهذا ما توفره السجلات الصحية الإلكترونية، وهنا تبرز أهمية منصة "نفيس"؛ إحدى مبادرات مجلس الضمان الصحي، التي تركز على نموذج الرعاية الصحية المبني على الكفاءة والجودة، والتي تسهل الوصول إلى بيانات المرضى عبر منصة إلكترونية واحدة، مما يعزز الشفافية ويتيح الاشراف على اتخاذ قرارات الرعاية الصحية، وبالتالي الحد من تقديم التدخلات العلاجية غير الضرورية، من خلال القدرة على تتبع الحالات المرضية وانماط العلاج التي تراعي أولوية الرعاية الصحية وجودتها على كميتها. *طبيب وباحث في الصحة العامة