كثر الجدَل هذه الأيَّام -لا سيما عبر وسائط التواصُل الاجتماعي- عن الخيار الأكثر جدوى في سبيل تحقيق دخلٍ مادي: الوظيفة أم العمل الحُر؟ وهي من القضايا التي تَسبَّب بإثارتها أولئكَ المؤثرينَ على العقول ممن يُفرطونَ في الأحاديث الحماسيَّة دونَ التزام جانب الموضوعيَّة ووضع مسألة التفاوت في الاحتياجات والقدرات بينَ البشَر في الحسبان. هُناكَ من يُفرطونَ في تأييد فكرة العمل الحُر إفراطًا يدفع بعض الموظفين للتورُّط بقروض شخصيَّة بهدَف تأسيسِ مشاريع صغيرة ثم التخلّي عن وظائفهم ظنًا منهم أنهم سيحظون بالثراء العاجِل والحُريّة المنشودة؛ وإذا بتلكَ الأحلام تنقلب إلى آلامٍ مُكللة بالخسائر والندم، وهُناكَ من يُبالغونَ في اعتبار الوظيفة هي السبيل الوحيد إلى الأمان، ويُنفقونَ راتبهم كاملاً آمنين مُطمئنينَ لقدوم الراتب القادم ثُم تُباغتهم الصدمة عندما تستغني عنهم جِهات العمل فيجدون أنفُسهم على أبواب العطالة وانعدام الاستقرار المادي ومن ثم الأُسري. بالنظرِ إلى تلكَ التجارب يكتشف المُلاحِظ أنَّ لا خيارَ يُناسب الجميع، ولا خيار مضمون العواقِب حتى آخر العُمر، كل حالةٍ ولها ظروفها الخاصَّة، ولكُل انسانٍ مخزونه المَعرِفي وتجاربه الشخصيَّة وقُدراته العقليَّة المُختلفة عن الآخر، هُناكَ من يُناسبهم الروتين الوظيفي التقليدي، وتتفق طاعة المُدراء وتلبية أوامرهم مُقابل أجرٍ شهري مع تركيبتهم النفسيَّة، وهُناكَ من يتوقون للانعتاقِ والتحرر في اتخاذ قرارات عملهم الحُر وإدارته بأنفسهم، يعشقون المُغامرة والتجديد ويتلذذون بمراحل التفاوت في دخلهم وإن خسروا كل ما كسبوه يومًا وكسبوا عشرة أضعافه في يومٍ آخر، وهناك من رُزقوا موهبةً أو هوايةً مُتميزة قادرة على القفز بهم نحو آفاقٍ من الشهرة والنجاح تعجز الوظيفة التقليدية عن تحقيقها، بينما هُناكَ مَن إن تم وضعهم في مركز اتخاذ أبسط القرارات ضاعوا وتاهوا وعادُوا أدراجهم نحو الوظيفة التقليدية حيث يؤمَرون ويُطيعون دون زيادة أو نُقصَان. خُلِقَ البشر بقُدراتٍ متفاوتة وأمزِجةٍ مُختلفة كي يُكمل كل منهم الآخر على خارطة الحياة، لا بد من اذكياء مُتحمسين شُجعان في اتخاذ القرارات وتنفيذها لينطلقوا في تأسيس المشاريع وتنميتها، ولا بُد من شخصيَّاتٍ تستمتع بالسير على نظامٍ تقليدي وتأدية واجباتها المطلوبة على أكمل وجه ليؤدوا دورهم في مُساندة الفئة الأولى مُقابل أجرٍ مُنتظمٍ يستحقونه، ولا غنى لأي مُجتمعٍ عن هؤلاء أو هؤلاء؛ فدون رجال أعمال ودون مشاريع صغيرة وكبيرة لن تكون هناك فُرص للتوظيف، ودون موظفين لن تجد تلكَ المشاريع من يُساعد على نمائها وانتعاشها وصمودها على ساحات الإنتاج والمُنافسة.