عُرِفت الترجمة بشكلٍ أو بآخر منذ أن اختلفت الألسن، فيتبادل الناس المعارف ويتخاطبونَ وفق نهجٍ مُعيّن اصطلحوا عليه، فتبادلُ منافِعهم يتطلب أسلوبًا لفكِّ الرموز؛ إذ خلقهم ربهم مختلفي الألسن، قال الله تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) (الروم: 22). وسعى الإنسانُ لتطويرِ أسلوبِ الخطاب ومنهج التفاهم عبر العصور، وتطوّرَ ذلك بتطوّر مفاهيم الإنسان وحاجاته ومتطلباته. يُحدثنا أو ينقلُ لنا علماء اللغات أنّ اللغة الواحدة تتطوّر تطوّرًا مستمرًا، فتولد كلمات بقدر موت كلماتٍ أُخَر. من هنا؛ أصبحَ علماء اللغة وعلماء الترجمة يلاحقونَ ذلك؛ لحاجة الإنسان وديمومة الحياة؛ لاسيما في عصرنا الذي يُقال عنه إنّه قريةٌ واحدة، سكانها يحتاجون لبعضهم بعضاً في اللحظةِ، فأكلهم وشربهم وصحّتهم وتعليمهم مرتبطٌ ببعضهم بعضاً. ولذا؛ تُعقد اللقاءات والملتقيات والندوات المتعلقة بهذا المفهوم، مثلما عُقِد ملتقى الترجمة -بنسخته الرابعة- في اليومين الثامن والتاسع من شهر نوفمبر من العام 2024م، نُظّم من جهتين متمرستين ذواتي فكرٍ ترجميّ تعملان من أجلِ رفعة الترجمة والمترجمين، لهما دورٌ فاعلٌ ومؤثر في إقامة مثل تلكم الملتقيات انطلاقًا من رؤيتنا الوطنية المباركة 2030؛ هما هيئة الأدب والنشر والترجمة، وشقيقتها جمعية الترجمة، ومما يثلج الصدر "العلاقة التكاملية بينهما"؛ كما جاء في كلمة الرئيس التنفيذيّ لجمعية الترجمة ورئيس تحرير مجلة ساتا سعادة الأستاذ عبدالرحمن السيّد؛ بقوله: إن "جمعية الترجمة هي المنظمة المهنية، وهيئة الأدب والنشر والترجمة هي المنظمة الرسمية لفعل الترجمة... وما زالت هذه العلاقة تصاعدية في كل ما يخدم المملكة العربية السعودية، بل في محيطها الإقليميّ والدوليّ". ضمّت تلكم المجلة؛ التي جاء عددها الأول تزامنًا مع ملتقى الترجمة، عددًا من المقالات التي كتبها متخصصون في علمِ الترجمة، وتضمنت تقارير توضح حاضر الترجمة وتطلعاتها المستقبلية، ومجموعة مختارة من الكتب المترجمة والبحوث الحديثة، ومقالات حول سوق الترجمة في المملكة العربية، وقضايا الترجمة في السياقات العالمية، والسياسات اللغوية، والتقنيات الترجمية. ومما أعطى الملتقى وهجًا أن ضمّ نخبة من المهتمين باللغات والترجمة، وتخلله ورش عمل، وحلقات نقاش ودوائر ترجميّة تفاعلية، وحكايا ترجمية، وجلسات فردية مع خبراء الترجمة، وجلسات حوارية وازدادَ وهجًا أن شاركَ به أكثر من 50 خبيرًا محليًا ودوليًا، ومن المتيقن أنّ هذا مفيدٌ للمترجمين والمشتغلين بالترجمة ومن هم على عتبات خوض هذا المجال من الطلاب والطالبات؛ إذ تواجد في هذا الملقى 3000 زائر من المهتمين بجوانب الترجمة، وحضره طلاب وطالبات أقسام الترجمة في جامعات المملكة العربية السعودية؛ الذين هم في حاجة إلى ما عرضه خبراء الترجمة، والمشتغلونَ بها والمتخصصون فيها، والعارفونَ دهاليزها. احتضنَ ملتقى الترجمة 2024 خبراءَ ومتخصصين في الترجمة، وشكّلَ فرصةً لتعزيز التواصل وتبادل الخبرات بين المهتمين والمختصين في القطاع، مما أبرزَ مكانة المملكة بصفتها مركزًا ثقافيًا رائدًا يدعم صناعة الترجمة، وتطوير قطاعها، بما يتماشى مع رؤية السعودية 2030. ومن حُسن الطالع أن عُقِد هذا الملتقى في ردهات وزارة التعليم؛ التي تحضُ على كل ما هو مثرٍ، ومفيد ثقافيًا، وتربويًا، وعلميًا. كانَ هذا الملتقى رحباً في قاعاته، رحباً في أفقه وتطلعاته، رحباً فيما أُلقيَ فيه، وما دارَ في ورشه وجلساته، رحباً فيما تمخض عنه.