في حصة اللغة العربية داخل أحد فصول الروضة كان هناك طفل يرفض أن يكتب مع المعلمة فاتخذت انطباعاً سريعاً وتعاملت مع الموقف بيأس وحين استقبلت الأم قالت لها: «ابنك كسول، يرفض الكتابة في حصة اللغة العربية!» تفاجأت الأم من هذا الحكم فطفلها يتمتع بمهارات متعددة ويتقن تعلم بعض العلوم، ويمتلك قدرات جيدة في اللغة الإنجليزية، فأكدت للمعلمة أن طفلها ليس كسولاً، بل يحتاج إلى الصبر والتشجيع. بعد أسبوع، واجهت الأم ملاحظة أخرى من معلمة مختلفة؛ أخبرتها أن طفلها يرفض اللعب بالدراجة ويحتاج «بعض الضغط» ليتعلم ركوبها. إلا أن الأم ردّت بأن ركوب الدراجة ليست مهارة تحتاج إلى إكراه أو ضغط، فطفلها يمكنه تعلمها حين يشعر بالجاهزية في أي مرحلة من عمره. بعد سنة وهو بعمر خمس سنوات، اشتكت معلمة أخرى من بطء الطفل في تناول الطعام، مقترحةً أن تدربه الأم على تناول الطعام بشكل أسرع، بالتأكيد هذا لم يحصل لأن الطفل ببساطة لا يمكن إجباره على تناول الطعام بسرعة. مع مرور السنين، استمر الطفل في مواجهة تحديات مختلفة، وتابعت الأسرة مع المعلمين هذه التحديات لتقديم الدعم اللازم. اليوم قد بلغ الطفل اثني عشر عاماً، هذا الطفل بفضل من الله تعلم ركوب الدراجة حين بلغ السادسة، وركوب الخيل في التاسعة، وبدأ يكتب العربية بخط جميل في العاشرة من عمره، وأصبح يتناول طعامه بطريقته دون مشكلة. إن تكرار هذه المواقف المذكورة آنفاً من أفراد المجتمع وفي المدرسة تُبرِز لنا مشكلة شائعة؛ وهي التسرع في إطلاق الأحكام على الأطفال بناءً على سلوكيات معينة واعتبارها مؤشرات على مشكلات تتطلب التدخل السريع دون مراعاة لمدى استعداد الطفل أو الفروقات الفردية. قد تؤدي هذه الأحكام إلى تقليص ثقة الطفل بنفسه أو تشويش الوالدين حول قدرات طفلهم، ما لم يكن لديهم وعي عميق وفهم دقيق لنموه واحتياجاته الفردية بالذات إذا كان طفلاً قد شُخّص في مرحلة ما بالتوحد. في كتاب التغلب على صعوبات القراءة للباحثين شايويتز، اطلعت مصادفة على الوظائف التنفيذية للدماغ والتي عملت لي نقلة في طريقة تعاملي مع التحديات التي تواجه الأبناء، وتساءلت: لماذا تغيب هذه المعلومة عن وعي عامة المربين وكثير من المعلمين؟ لأنه من خلال الدراسات وُجِد أن فهم هذه الوظائف وتطويرها يمكن أن يكون لها أثر عميق في دعم قدرات الأطفال المختلفة مما يسهم في بناء شخصياتهم وتعزيز استقلاليتهم وثقتهم بأنفسهم. ما الوظائف التنفيذية؟ هي مجموعة من العمليات العقلية: (التخطيط، تنظيم الوقت، بدء المهام، المرونة الإدراكية، التحكم في الاندفاع، الذاكرة العاملة، تنظيم المشاعر) تعد هذه العمليات ضرورية للنجاح في المهام اليومية البسيطة والمعقدة والتكيف مع المتغيرات في البيئة المحيطة. تعتبر الوظائف التنفيذية حيوية في عملية التعلم الأكاديمي والنجاح المهني والاجتماعي، حيث تساعد في إدارة العلاقات والتواصل وتنظيم الوقت والتحكم في التصرفات. كما أن الضعف في هذه الوظائف يمكن أن يؤثر بشكل ملحوظ على جودة حياة الأفراد، خصوصًا لمن يعانون من اضطراب التوحد أو أي اضطرابات نمائية أخرى مثل ADHD فرط الحركة وتشتت الانتباه. وفقًا للرابطة الأمريكية لعلم النفس (APA) والمعهد الوطني للصحة العقلية (NIMH)، تشمل الوظائف التنفيذية ثلاث مجموعات رئيسية: 1- التحكم في الانتباه والانفعالات ويتعلق بالقدرة على التركيز وتجنب التشتت، وضبط ردود الفعل العاطفية والانفعالات في المواقف المختلفة. 2- الذاكرة العاملة تسمح للفرد بالاحتفاظ بالمعلومات واستخدامها بشكل مؤقت عند إتمام المهام، مثل تذكر خطوات مهمة معقدة أو الاحتفاظ بالمعلومات الضرورية لاتخاذ القرارات. 3- المرونة المعرفية تُعرف أيضًا بالتفكير المرن، وهي القدرة على تغيير الخطط وتعديل الاستراتيجيات بناءً على متغيرات جديدة أو معلومات مختلفة، والتكيف مع التغيرات دون إحباط.. ويمكن دعم هذه المهارات لمن يعانون من خلل أو ضعف فيها من خلال التدريبات العقلية، والبرامج التعليمية الخاصة، وتقديم بيئات منظمة، واستخدام التكنولوجيا المساعدة مثل التطبيقات التي تساعد في إدارة الوقت وتذكر المهام، مما يعزز من القدرة على تنظيم يومياتهم بفعالية. ومن استراتيجيات الدعم: لمهارة التخطيط: استخدام وسائل بصرية مثل قوائم المهام وإنشاء روتين منظم، لمهارة تنظيم الوقت: استخدام المؤقتات، تحديد أهداف زمنية، وممارسة مهارات تقدير الوقت. لمهارة بدء المهام: استخدام التذكيرات، ربط المهام بالاهتمامات، وإنشاء تسلسل متوقع للمهام. لمهارة المرونة الإدراكية: إنشاء روتين ثابت، الاستعداد للتغييرات، وممارسة مهارات التفكير المرن. لمهارة التحكم في الاندفاع: استخدام الإشارات السلوكية، تعزيز السلوك الإيجابي، وتوفير تذكيرات بصرية. لمهارة الذاكرة العاملة: تبسيط التعليمات، استخدام الوسائل البصرية، وممارسة الأنشطة التي تعزز الذاكرة. ولمهارة تنظيم المشاعر: تعليم تقنيات الاسترخاء، توفير أماكن هادئة للهدوء، وتشجيع التعبير عن المشاعر؛ هذه الاستراتيجيات تعد طرقاً فعالة لمساعدة الأفراد المصابين بالتوحد على التعامل مع التحديات، مما يعزز من استقلاليتهم ومرونتهم. ومع توفير الدعم المناسب، يمكن للتوحديين (الناطقين) النجاح وإظهار مواهبهم الفريدة.