رغم كل ما نعيشه من تقدم وتنوع في مصادر الأخبار وكاشفات الكذب والخداع، إلا أنه وللأسف - لا تزال الخطابات الغوغائية هي المتحكمة في التأثير وربما تشكيل الرأي العام العربي، بمخاطبتها للعواطف بدلاً من مخاطبة العقول، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم من تزييف للحقائق وتبسيط للقضايا المعقدة والخدر الجماعي، وكأننا منتصرون وأننا بخير ونسير في الطريق الصحيح. هذا النوع من الخطاب، الذي يعتمد على تحريك المشاعر وتوظيف اللغة المثيرة والرنانة، يهدف إلى استقطاب الجماهير وإثارة حماستهم، دون أن يكون مبنيًا على حقائق أو حجج عقلانية، وهكذا تعمل هذه الخطابات الغوغائية كأفيون قاتل ربما يهدئ الآلام، لكنه يقود إلى نتائج كارثية على المدى الطويل؛ فمنذ "النكسة" ونحن نحمل "العدو الخارجي" و"الآخر" نكباتنا المتتالية حتى اعتدنا اللجوء إلى تبرير الهزائم والإخفاقات وسوء الإدارة بإلقاء اللوم على قوى خارجية وتآمر دولي، وهذه السردية تعمل على تحويل الانتباه بعيدًا عن أصل المشكلة، وتخلق انقسامًا في الرأي العام مبنيًا في أساسه على معطيات زائفة. وبفضل التبسيط المضلل الذي تقدمه هذه الخطابات، يتمكن أصحابها من دفع الجماهير نحو رؤية محدودة وغير دقيقة، مما يعزز القبول السلبي للوضع الراهن؛ وبدلاً من مواجهة الحقائق والبحث عن حلول مستدامة، تهرب هذه الخطابات إلى الأمام من خلال وعود غير واقعية أو تصعيد مشاعر العداء تجاه الآخر وتحميله المسؤولية الكاملة، وتعطل القدرة على التفكير النقدي، وبمرور الوقت، تتراكم المشكلات وتزداد تعقيدًا، مما يجعل من الصعب التعامل معها بفعالية؛ لذلك، فإن الخطابات الغوغائية هي عقبة خطيرة تمنع المجتمعات من التقدم وتحقيق الاستقرار الحقيقي. وللأسف أن هذه الخطابات تجد الدعم والترويج والاحتفاء الكبير من قبل وسائل إعلام مؤدلجة تسعى لاستغلال هذه الأجواء لتحقيق مكاسب أنانية، حيث تقوم هذه الوسائل بدور محوري في تضخيم الرسائل الغوغائية، وتروج لمحتوى يعتمد على الإثارة والتلاعب بالعواطف، بدلًا من تقديم معلومات دقيقة وموضوعية؛ ولأنها تركز على استقطاب الجمهور من خلال رسائل سطحية وشعارات مثيرة، فإن هذه الوسائل تتخلى عن مسؤوليتها ومهنيتها لتغذي رغبة الجماهير في حلول بسيطة وسريعة، على حساب الفهم العميق للقضايا. والخطير أنه وفي كثير من الأحيان، تكون هذه الوسائل مدفوعة بأجندات خفية، تهدف إلى دعم أجندة سياسية محددة أو إلى إضعاف الثقة في المؤسسات الحكومية أو المعارضين لهذه الأجندة، والأسوأ أن تعمل هذه الوسائل على تحريف الحقائق وتقديمها بصورة مبسطة أو مشوهة، بحجة التماهي مع الحالة الغوغائية. هذه الوسائل تقدم تفسيرات سطحية للأحداث، تركز على "الأشرار" و"الأخيار"، مما يجعل الجمهور ينجذب إلى روايات بسيطة لا تعكس تعقيد الواقع، حيث إن مثل هذه الممارسات الإعلامية تجعل من الصعب على الجمهور الحصول على رؤية متوازنة ومبنية على الحقائق. ولا شك أننا في عالمنا العربي نمر بمرحلة نحتاج فيها إلى وسائل إعلامية تعمل بشجاعة على كشف التضليل وتعزيز الوعي، بدلًا من الانجرار وراء الإثارة والتضليل. * "حشد العقلاء أمر معقد للغاية، أما حشد القطيع فلا يحتاج سوى راعٍ وكلب".