في عام 1409 ه، بينما كنت أستكشف جماليات منطقة مشرفة (الحبلة) بجنوب المملكة العربية السعودية، وقعت عيني على رجلٍ مسنٍ، تظهر ملامح الزمن على وجهه، وكأن كل تجاعيد بشرته تحكي قصة من قصص الحياة. كان عمره كما يقول أهل المنطقة 125 عامًا، وهو يرعى الغنم في تلك الوديان الخضراء التي تحكي حكايات الأجداد. كانت تلك اللحظة كفيلة بأن توقظ في نفسي فضولًا عميقًا، فقررت الاقتراب منه. عندما اقتربت منه استقبلني بابتسامة دافئة، وكأنه يعرفني منذ زمن بعيد. قدم لي قطعة من الخبز، كانت دافئة كحكاياته، وبدأت محادثتنا التي ستدوم في ذاكرتي إلى الأبد. ( انها ضيافتنا هنا) قالها بنبرة تفيض بالكرم، وكأن الزمن لم يستطع أن يمسّ طيبة قلبه. بدأ يحدثني عن الأتراك الذين مروا في تلك الديار، وعن الملك عبدالعزيز، الذي وحد المملكة العربية السعودية وشيدها من شتات. كانت كلماته تنساب كالنهر، تحملني إلى عصور مضت، حيث كانت الأرض تتنفس تحت أقدام الفرسان والجنود، وحيث كانت القرى تعيش في تناغم مع طبيعتها. قال: (عشت في زمنٍ كانت فيه الحياة بسيطة، لكن القلوب كانت مليئة بالحب والكرامة) وقد ارتسمت على وجهه ملامح الحنين. كان يتذكر كيف كانت الأعياد يحتفل بها في ذلك الزمن وكيف كان الناس يجتمعون حول المائدة، يتبادلون الأحاديث والضحكات، ويتشاركون الأفراح والأحزان. عندما تحدث عن الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه كان صوته مليئًا بالفخر. (لقد كان رجلًا عظيمًا، قاد بلاده نحو التغيير، نحو الوحدة) وأشار إلى الأفق البعيد وكأن الملك عبدالعزيز لا يزال يعيش بيننا. شعرت بأنني أمام شخصٍ عاصر أحداثًا غيرت مجرى التاريخ، وأنني أستمع إلى صوتٍ من الماضي يروي لنا حكايته. تحدث كذلك عن الحياة اليومية، عن رعاية الأغنام، وعن الصيد، وعن التحديات التي واجهها الناس في تلك الفترة. كانت كلماته تحمل عبق الماضي، حيث كانت الأرض تُزرع بالحب، والقلوب تُروى بالأمل، وكانت الحياة بسيطة.. مع مرور الوقت، أدركت أن هذا الرجل ليس مجرد راعٍ للأغنام، بل هو وعاء مليء بالحكمة والمعرفة. كان مثل كتابٍ مفتوح، تكتشف صفحاته مع كل لحظة تمر. وفي تلك اللحظة، شعرت بأنني أعيش تجربة زمنية فريدة، وأنني كنت محظوظا لأنني التقيت بهذا الشخص الذي يمثل جسرًا بين الماضي والحاضر. عندما انتهت المحادثة، ودعت هذا الرجل، الذي ترك في قلبي أثرًا عميقًا. كانت تلك القطعة من الخبز ليست مجرد طعام، بل كانت رمزًا للكرم والتواصل الإنساني، ولحظات من الزمن لا تُنسى. عدت من ذلك اللقاء وأنا أحتفظ في ذاكرتي بقصةٍ لن تُمحى، قصة رجلٍ عاش 125 عامًا، ورغم كل تلك السنوات، بقيت روحه شابة، كحكايات الأجداد التي تُروى في ليالي الشتاء الباردة، تحت أضواء النجوم.