ما أذكره هنا ليس تمجيدًا للغرب أو جلدًا للذات؛ لكنه تشخيص للواقع، فإذا أردنا النهوض يجب أن نتنبه للثغرة المؤسسية الواضحة التي نعاني منها حتى اليوم.. لو لم يكن هناك مؤسسات علمية في الغرب تحتضن العلماء وتقدم أفكارهم ويجتمع أعضاؤها لمناقشة النظريات الجديدة وتطويرها أو دحضها والتفكير فيما بعدها لم يكن للعلوم أن تتطور.. هناك قول فيه الكثير من التبرير والعاطفة متداول هو أن الغرب تعلم من علمائنا أو أنه سرق علومهم، يقابل هذا القول عدد من الأسئلة أولها: إذا كان الغرب تعلم من العرب أو أنه سرق علومهم، فلماذا لم يطور العرب العلوم التي ابتدعوها ولماذا لم يحولوها إلى معرفة تراكمية فضلا عن أنهم يجعلوا منها منتجات صناعية تساهم في بناء قوتهم واقتصادهم وتجعلهم يقودون العالم والحضارة الإنسانية؟ لماذا دائما نجد من يقول نحن سبقنا الغرب ونحن من وضعنا أسس هذا العلم أو ذاك، لكن النتيجة هي أننا لا نملك تسلسل واضح لتطور العلوم لدينا وبالكاد نعرف تلامذة تابعو ما توصل إليه عالم عربي وزادوا على ما قام به من جهد. يمكن أن أذكر عالم البصريات المسلم الحسن ابن الهيثم الذي اخترع "الغمرة" التي حولها الغرب إلى "الكاميرا"، لم نسمه أنه جاء عالم مسلم بعد ابن الهيثم وطور أفكاره، بنما الغرب عرف قيمة هذا الاكتشاف وطور علم المنظور بناء عليه في منتصف القرن الخامس عشر ثم بعد ذلك الكاميرا. يجب أن أنوه أن المسلمين وعلى رأسهم الدولة العثمانية ولمدة تزيد على أربعة قرون لم تتعامل مع المنظور منذ اكتشافه رغم أهميته. قبل عدة أيام دار حوار بين الزملاء حول الأسباب التي جعلت المسلمين لا يطورون العلوم التي ابتدعوها، وتركز الحديث حول الغياب المؤسسي على وجه الخصوص، ففريق كان يميل إلى أن السبب الرئيس ارتبط بغياب المؤسسة العلمية، وأن العقل العربي غير تنظيمي ولم يكترث كثيرا للعمل المؤسسي وأن تطور المؤسسات في الحضارة الإسلامية كان عملا فرديا اجتهاديا وغير متصل ولم يحافظ على وجوده رغم أن الدولة الإسلامية بدأت بفكر مؤسسي واضح والخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسس الدواوين، لكن سرعان ما تفككت هذه المؤسسات. الفريق الآخر كان يحاول أن يجد المبررات لهذا الغياب لكنه في نفس الوقت كان يشعر أن العقل المؤسسي التنظيمي لم يصل إلى مرحلة النضج أبدا لذلك تحولت جهود العلماء إلى جزر غير متصلة وأصبح المنجز العلمي برمته عبارة عن اجتهادات فردية تنقطع عند وفاة العالم. في المقابل يتميز العقل الغربي بالتنظيم وبناء المؤسسات التي تحافظ على وجودها واستمرارها، فمنذ عصر أثينا والفلاسفة اليونان مرورا بالعقل الروماني التنظيمي إلى عصر الكنيسة المسيحية التي تحولت إلى مؤسسة دينية ومدنية تحفظ السجلات المدنية لأعضائها ولها استقلالها المالي والإداري حتى عصر النهضة ونشأة المؤسسات العلمية الكبرى انتهاء بالعصر الحديث، حتى في عصور الظلام والتخلف لم يتخلَّ العقل الغربي عن التنظيم المؤسسي. ما أذكره هنا ليس ليس تمجيدا للغرب أو جلدا للذات لكنه تشخيص للواقع، فإذا أردنا النهوض يجب أن نتنبه للثغرة المؤسسية الواضحة التي نعاني منها حتى اليوم. لو لم يكن هناك مؤسسات علمية في الغرب تحتضن العلماء وتقدم أفكارهم ويجتمع أعضاؤها لمناقشة النظريات الجديدة وتطويرها أو دحضها والتفكير فيما بعدها لم يكن للعلوم أن تتطور. أما القول إن الغرب تعلم واستفاد من العلماء المسلمين فهذا أمر لا نشكك فيه، لكن التثاقف والتعلّم من الآخر أمر مشروع والعبرة في القدرة على نقل المعارف إلى خارج حدودها وتحويلها إلى منتجات نافعة. ويبقى السؤال هو: لماذا حتى اليوم العلماء العرب ينبغون في الغرب ويعملون في مؤسساته؟ هذا السؤال جعل الحوار يتجاوز العجز المؤسسي التاريخي إلى وجود خلل واضح في الوقت الراهن في العمل المؤسسي العلمي على مستوى الوطن العربي وربما الإسلامي. فسّر البعض هذه الظاهرة الملفتة إلى أن العقل العربي حتى هذه اللحظة لم يصل بعد إلى أهمية العمل المؤسسي المنظّم وقبل ذلك الحر، فالمؤسسات تبني وتهدم بقرار من خارج المؤسسة بينما تتطلب المؤسسة العلمية أن تبنى من قبل أعضائها وأن تكون حرة في توجهاتها وأفكارها. لعلي أربطها هنا بفكرة "الحرية الأكاديمية" التي نادى بها الفيلسوف الألماني "مارتن هيدغر" أبان تراجع الجامعات الألمانية في عهد هتلر. التساؤل حول القدرة المحدودة لدى العرب والمسلمين، في الوقت الراهن، على التأثير في المناخ العلمي العالمي يؤكد بشكل أو بآخر على أن المؤسسات التعليمية والعلمية العربية غير ناضجة مؤسسيا ولا تتمتع بالحرية الكافية التي تصنع منها مؤسسات مبدعة. ومع ذلك هناك من ربط عدم نضج المؤسسات العلمي بالفكر الديني المتشدد الذي لا يعتبر العلوم الدنيوية ضمن العلوم ولا يعتبر النابغين فيها علماء، فالعلماء هم فقط البارعون في العلوم الشرعية، فالحظوة والمكانة لهم فقط، ويرون أنه رغم أنه لا يوجد رهبانية في الإسلام ولا يوجد ما يمكن أن نسميه "مؤسسة دينية"، إلا أن البعض استطاع عبر تاريخ الدولة الإسلامية أن يخلق ما يشه "التابو" بأن العلم فقط هو العلم الشرعي، رغم أنه لا تعارض بين الشرع والعلوم الدنيوية. يجب أن ننوه هنا على أن أغلب العلماء الذين برعوا في العلوم غير الشرعية تم اتهامهم بالزندقة وتم التشكيك في عقائدهم. يعتقد البعض أن هذا السبب، الذي مثل إشكالية حضارية مستمرة، كان الحافز الأساسي الذي يثير المخاوف عند التفكير في تأسيس أي مؤسسة علمية في السابق. لكن يجب أن ننبه إلى أن العمل المؤسسي والعقل التنظيمي لم يكونا حاضرين في الأساس لذلك فإن الانحياز للعلوم الشرعية فقط وإهمال بقية العلوم لم يصنع فكرا مؤسسيا شرعيا قادرا على التجديد.