فكرة الوطن حاضرة في العقول والقلوب في كل وقت وليس فقط في اليوم الوطني، فهذه المناسبة هي للتفكير في نعمة الوحدة والاستقرار، أما الفكرة نفسها فهي تعيش مع المؤمنين بها، تحركهم لبناء اقتصاد قوي وتوجههم كي يصبحوا مؤثرين على مستوى العالم.. إنها الدافع للتفوق والتميز، إنها الظاهرة الأهم التي تجعلنا نقيّم كيف ننظر لأنفسنا، وهي كذلك التي تحثنا كي نعرف كيف ينظر لنا العالم.. هناك من يرى ظاهرة المواطنة على أنها فكرة فلسفية تعكس علاقة ثلاثية هي الناس والدولة (السلطة) والمكان، وتحكم هذه العلاقة اتفاقية تقوم على مبادئ وقيم جزء منها مكتوب وهو دستور الدولة وجزء غائر عميق يتملّك كل المنتمين للوطن بدرجات متفاوتة، وهذا التفاوت هو الذي يحدد مفهوم المواطنة لدى كل فرد. هذه الاتفاقية ليست ثابتة بل تتطور وتتأثر بالأحداث، تقوى وتضعف، لكنها تظل الميثاق الذي يجمع الناس في مكان واحد وتحت راية واحدة ويوحد أهدافهم. خلال الثلاثة قرون الأخيرة ظلت الدولة السعودية تمثل الرابط الذي جعل من أغلب أبناء الجزيرة العربية ينضمون إلى كيان واحد ويحملون هوية واحدة، وأوجد لديهم أهدافا ومصالح مشتركة. المكان في هذه الاتفاقية هو الحاضن الذي يجمع الناس ويمثل الوطن من الناحية المادية الوجودية لكنه لا يحتوي فكرة الوطن بأكملها لأن الفكرة في عقول وقلوب الناس وهم الذين يجعلون المكان وطنا حقيقيا للجميع. الجدل حول ظاهرة الوطن وهي المكان؛ أما الفكرة فليست جديدة، لأن تفسير الوطن في الأصل مبنى على خاصية "الانتماء" والبشر لا ينتمون فقط إلى الأمكنة بل إلى ما يؤمنون به، لذلك فإن الوطن يبدأ بالإيمان بوجوده. سوف أتحدث عن اليوم الوطني من زاوية مختلفة قليلاً، وربما تكون مرتبطة بالعمارة كظاهرة تصنع "التعلّق بالمكان"، فما الذي يجعل مجموعة من الناس تتعلق بمكان ما وترتبط به عاطفيا وروحيا وتفتديه بما تملك؟ وهل يمكن أن يقتصر "الوطن" على ظاهرة "المكان" أم أنه "فكرة" تتجاوز الحضور المكاني لتمتد بعيدا في الشعور بالانتماء؟ الذين يتحدثون عن ظاهرة اللّاانتماء، كما يشير لها "كولن ولسون" صاحب رواية "اللّامنتمي" هي فقدان الشعور لدى اللّامنتمي بالارتباط بالمبادئ والاهداف التي يؤمن بها مجموعة الناس، ولم تكن الإشارة إلى المكان واضحة بما يكفي كما يتصورها المهتمون بالعمران، إذ أن "الرابطة المكانية" Place Attachment تمثل نوعاً من الانتماء لدى البعض لمكان ما لوجود خصائص محددة في هذا المكان تجعل الناس ترتبط به. إذا ثمة اتفاق على أن الروح الوطنية، ليست هي الانتماء للمكان الذي ولدنا فيه بل الايمان بفكرة "الوطن"، وهذه الفكرة تتجاوز "عاطفة مسقط الرأس" لتمتد إلى القيمة التي يصعب تحديد ماهيتها لكنها هي القيمة التي تعطي الفرد هويته ووجوده. يمكن أن أضيف خاصية أخرى تصنعها فكرة الوطن لدى المؤمنين بالفكرة وهي "التناغم"، وهي ظاهرة عكس "التنافر"، فرغم أن كل مكان يحتوي على مجموعات من الناس لابد أن تكون التعددية الفكرية والطائفية والثقافية حاضرة، لكن هذه التعددية لا تقود إلى التنافر والتناحر، طالما أن الجميع يؤمن بفكرة الوطن الواحد. ظاهرة التناغم التي تصنعها الأوطان القوية نابعة من وجود مبادئ راسخة ممتدة عبر التاريخ، ومع ذلك فهي لا تخنق التعددية والتنوع. يتفق الكثير على أن فكرة الوطن تجمع "كلا الاثنين معا" التعددية والتناغم، فنحن نختلف في افكارنا لكن نتفق على بناء وطن واحد قوي. لذلك فإن الأوطان القوية لا تسمح بنمو الهويات المتنافرة "القاتلة" لكنها لا تمنع نمو الهويات التي تجسد "الموزاييك" الثقافي الذي يميز المجتمعات الحية. ربما يكون هذا الجدل حول فكرة الوطن مبنيا على فكرة "التعددية داخل إطار الوحدة"، فهي فكرة تجمع الأمكنة المتعددة والمتباينة وتجمع الثقافات المختلفة في بوتقة واحدة. عندما يعود الانسان من بلد غريب حتى لو كان مجاورا لبلاده، يشعر أنه عاد إلى "مسكنه"، لذلك هناك قول مأثور هو أنه "لا مكان مثل المسكن" لكن المسكن الكبير هو "الوطن" الذي يحتوي على المسكن الصغير، هذه المقاربة ليست مكانية فقط، فمفهوم "السكن" هو مفهوم عاطفي شعوري، وليس مكانيا، وما يعنيه الوطن هو "السكينة" و"الاطمئنان"، وهو في الواقع الذي يجعل من المسكن الصغير ذا قيمة، لأنه دون المسكن الكبير فكل سكن غير آمن. هذا هو ما يجعل تعريف كلمة وطن في غاية الصعوبة، لأن أي تعريف يعجز أن يحتوي الفكرة ويعبر عن ابعادها الشعورية والمكانية، فضلا عن إمكانية تحديد كل الأسباب التي تجعل مجموعة من البشر يطورون رابطة فيما بينهم ويدافعون عنها وعن المكان الذي يحتضنها. لكن لا يحتاج البشر إلى تعريف لمفهوم الوطن لأنه مجرد أن يؤمنوا بحتمية وجوه يصبح المفهوم واضحا لديهم. في الواقع أن فكرة الوطن حاضرة في العقول والقلوب في كل وقت وليس فقط في اليوم الوطني، فهذه المناسبة هي للتفكير في نعمة الوحدة والاستقرار، أما الفكرة نفسها فهي تعيش مع المؤمنين بها، تحركهم لبناء اقتصاد قوي وتوجههم كي يصبحوا مؤثرين على مستوى العالم. إنها الدافع للتفوق والتميز، إنها الظاهرة الأهم التي تجعلنا نقيّم كيف ننظر لأنفسنا، وهي كذلك التي تحثنا كي نعرف كيف ينظر لنا العالم. كل واحد ينتمي لفكرة الوطن يؤثر على الجميع ويصنع تصور الآخر عنهم، لذلك فإن الانتماء للوطن مسؤولية كبيرة على الجميع أن يعي أهمية تحملها.