في الأسابيع الماضية، شهدت المدن السعودية حركة نشطة مع وصول عشرات المعلمين الصينيين الذين توزعوا في مختلف أنحاء المملكة للبدء في تدريس اللغة الصينية في المدارس، ومن المتوقع أن يلتحق بهم مئات المعلمين في الفترة المقبلة. هذه الخطوة تأتي بعد سنوات من إقرار إدخال تعليم اللغة الصينية في مناهج التعليم السعودية، خلال زيارة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى الصين عام 2019، وقد حظي هذا القرار باهتمام واسع داخل الأروقة الصينية على مختلف المستويات، حيث تعتبر الصين المملكة العربية السعودية واحدة من أهم الدول في منطقة الشرق الأوسط، وذات التأثير الأكبر على العالمين العربي والإسلامي. وبالتالي، فإن نجاح إدراج اللغة الصينية في المناهج التعليمية السعودية يُعد إنجازاً كبيراً في مشوار الصين لنشر لغتها وثقافتها حول العالم. علاوةً على ذلك، فإن لهذا التوجه أبعاداً أخرى تحمل إيجابيات كبيرة للمملكة، تتجاوز مجرد تعليم أبنائها واحدة من أصعب اللغات في العالم، فتواجد 800 معلم صيني في مختلف أنحاء المملكة ليس فقط فرصة لتعليم اللغة الصينية، ولكنه يُعد أيضاً نافذة مهمة لتعريف الشعب الملياري المنفتح على العالم بالثقافة السعودية ومدنها، من خلال هؤلاء المعلمين الذين سيعودون على الأقل مرة واحدة سنوياً إلى الصين لقضاء إجازاتهم، وتحديداً خلال إجازة الربيع، التي تعتبر فترة تجمع العائلات الصينية. خلال هذه الفترة، سينقلون تجاربهم وقصصهم عن العمل والحياة في السعودية، مما سيساهم في نشر صورة إيجابية عن المملكة في الأوساط الصينية، سواء من خلال التفاعل المباشر مع أسرهم أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي الصينية، التي يستخدمها مليار شخص صيني، هذا النشاط الرقمي سيعزز من حضور اسم السعودية (التي تُنطق ب شاتا) في الأذهان الصينية، حيث كانت معرفة جزء كبير من الصينيين بالسعودية محدودة جداً حتى وقت قريب. قبل أسابيع، تواصلت معي إحدى شركات السياحة الصينية التي تعمل في الخليج منذ 17 عام، لبحث نقل أعمالها إلى السعودية، نظراً للتوجه الصيني الكبير نحو المملكة سواء للعمل أو التجارة، وخلال اجتماعنا في الرياض بأحد المطاعم الصينية الفاخرة، تفاجأت عندما أخبروني بأنهم لا يخططون لفتح فرع فحسب، بل يرغبون بجعل المملكة مركزهم الرئيس، هذا القرار يأتي في ظل ازدياد الرحلات الجوية بين المملكة والصين، وزيادة المطاعم الصينية الفاخرة والتي تستهدف بالأساس الزبون الصيني المقيم بالمملكة، بعكس السابق حيث كانت هذه المطاعم تبحث عن زبائن محليين يرغبون في تجربة المأكولات الصينية. اليوم، يتواجد الصينيون في معظم مناطق ومدن المملكة، ليس فقط كموظفين أو سائحين، بل في مجالات متنوعة تشمل التجارة والتعليم والسياحة والإعلام والثقافة والعقارات والمقاولات وغيرها. هذه التجربة الجديدة للصين في منطقة الشرق الأوسط تأتي في وقت تسعى فيه الصين إلى تعزيز مكانتها كقوة اقتصادية عالمية، حيث أصبحت الصين اليوم ثاني أقوى اقتصاد في العالم، تقدمها السريع خلال العقدين الماضيين جعل العالم يقف احتراماً لهذه القوة الصاعدة بقوة الصاروخ، فالصين لا تضع يدها على شيء إلا وتسعى للتفوق فيه، وهو ما رأيناه مؤخراً -مثلاً- بتفوقها في تصدير سياراتها عالمياً، متجاوزةً اليابان وألمانيا. من منظور العلاقات الدولية، يرى الواقعيون أن الدول تتصرف بناءً على مصالحها القومية، ولكن، من منظور شخصي، أرى أن الصينيين يُضيفون إلى ذلك خاصية الوفاء تجاه أصدقائهم، خاصة عندما يجمعهم تاريخ وثقافات عريقة كما هو الحال مع السعودية، هذا الوفاء يظهر جلياً في ردود الفعل الصينية تجاه الاهتمام السعودي بتوثيق العلاقات الثنائية، حيث تُبدي الصين احتراماً وتقديراً كبيرين للمملكة كدولة تشاركها الطموح والرغبة في التقدم في مختلف المجالات. * مركز الرياض للدراسات السياسية والاستراتيجية الجناح الصيني في معرض الكتاب جسر تواصل ثقافي