تعيش الهواجس في الخواطر وتتكاثر، وتتعدد أنواعها منها ما هو مفرح، ومنها ما هو محزن، ومنها ما يكون في الوسط، فلا هو بالمحزن ولا بالمفرح، ولكنه يأخذ موقعاً كرأي يتشكل إزاء موقف معين ليس له تأثير من قريب أو بعيد غير أنه يبقى في الذاكرة، وحمدا لله أن ذاكرة الإنسان ليست كذاكرة الجوال التي قد تمتلئ بالرسائل أي أن الذاكرة تتجدد، وتكون طاقتها الاستيعابية قابلة للتلقي، إذ تتم عملية التنشيط التلقائي بانسيابية ومرونة لا يملك الإنسان إزاء هذه القدرة العجيبة الفذة إلا أن يبتهل إلى خالق هذه القدرة بالدعاء وشكره على نعمته تبارك الخالق وهو أحسن الخالقين، وفي الذاكرة أيضاً إعجاز لا يمكن للإنسان أن يأتي بمثله ألا وهو النسيان، وهنا تكمن الأسرار العميقة البالغة، وتقوم الذاكرة بدور عجيب من حيث الفرز وإحالة كل تفاعل إلى الحواس المختلفة في الجسم بتنظيم متقن، بيد أن أكثر ما يرهق الإنسان ويقلقه أحياناً هو استسلامه للإفراط في التحسس لتتسلل الازدواجية المقلقة إلى أعماق النفس، في حين أن الهواجس تعبث في عقل الإنسان أحيانا كتضخيم نقد الذات لأمور عملها المرء وهي تنافي ما يعتقده فكره وربما تكون بسيطة وأهم ما في الأمر أن لا تكون منافية لدينه وأمانته أو فيها الأذى بالآخرين أي أنها تكون في دائرته الشخصية لذلك كان الاستغفار تنشيطاً للذاكرة لكل ما هو إيجابي وفيه خير له، إلى ذلك فإني أكاد أجزم أن كل إنسان يمارس الازدواجية بشكل أو بآخر بمعنى أنها نسبية، ويعود الأمر إلى طبيعة التناقض فقد تكون يسيرة وعابرة وبشكل متكرر وتلقائي، لذلك كان ذكر المرء للخالق جل في علاه في كل وقت وحين هو ما يخفف الأعباء على النفس المترعة بشؤون الحياة وشجونها، فمن غير اليسير أن تجد شخصاً مثالياً مائة بالمائة، ولكن توافر الحد المطلوب من هذه الصفة تفرضه حتمية الالتزام بالمبادئ، ولا يمكن في نفس الوقت تطويع الذات وفصلها عن تلك الهيمنة في بعض المواقف، وهي المساحة التي تمكنك من العودة إلى ذكر الله ودعم الإدراك بكل ما تعنيه الكلمات من معانٍ سامية ليحول دون خدش الإحساس وتوغل الوساوس، فهي المنفذ لإبليس اللعين وأعوانه في زرع الشكوك بغية خلق الاهتزاز والانحراف عن الطريق القويم، إن تحقيق الحد الأعلى من المثاليه يبعث ولا ريب على الاطمئنان المؤدي إلى المصالحة مع الذات وبالتالي فإن التسليم بالتقصير ونحو ذلك يجرد الإحساس من حالة الكمال، والكمال لله وحده، المقاربة بين الإحساس والسعي لتحقيق الأهداف النبيلة تترجمه النية الطيبة فهي المقصد، هنا يتجلى النبل بأسمى المعاني ليسطر بذلك تناغماً رائعاً بين الإنصاف للمشاعر الطيبة من جهة، وبين الالتزام المؤطر للأخلاق الحميدة من جهة أخرى، لفظ الحقد والحسد والشماتة وكل إساءة من القلب هو جسر العبور للتخفيف من هجمات الازدواجية المقلقة ولجم تأثيرها، ويمتد تأثيرها كذلك في العلاقات بين الناس والأسر بل بين المرء وزوجته ليكمن تصيد الأخطاء بالمرصاد في حالات الشد والجذب، أما آن لينابيع المثالية أن تتدفق لتزيح هذا العناء وتخفف من وطأة وهج الحضارة البراق والذي ما فتئ بريقه يشكل إعراضاً عن ضخ كم وافر لينابيعها الفياضة، وفي خضم النقلة النوعية في مجال الاتصال وسطوة الاستدراج عبر إغراء منتجاته المتطورة وتصبح متهورة لا سيما إذا وقعت بيد الأشرار لينطبق على مستخدمها القول "غشيم ومتعافي"، فلم تكن المثالية بحال من الأحوال إلا تميزاً فريداً مقترناً بالخير وهي تنضوي تحت لواء ثقافة التسامح العملاقة، وإذا كان ثمة ما يعيد للمثالية بريقها ولمعانها، فإنه الوضوح مشفوعاً بشفافية تقر بالتقصير في إحدى النواحي، إن تنمية هذا الشعور المقرون بالرغبة الصادقة ينعكس على المجتمع بشكل عام فمني إليك ومنك إلى الآخر وهكذا يتحقق الانسجام مع هذه المؤثرات والتفاعل الصادق مع المعطيات، وحينما ينتهج المؤمن هذا السلوك فإنه نابع من قناعة مطلقة بأنه يعمل بما يرضي المولى سبحانه، في حين أن تجسيد هذه الرغبة ينطلق من حكمة بالغة، ورأس الحكمة مخافة الله، ولا شك أن الخير كل الخير في الامتثال لأوامر الخالق، سبحان الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، حينما يزدهر مع كل كلمة طيبة يخالجها الإيمان الصادق ويرفدها اليقين المطلق بأن ما عند الله خير وأبقى، فأنت لا تحاسب على أفكار سيئة تجول في ذهنك رغمًا عنك وبالتالي فإنك ستتسامح مع نفسك والآخرين فما تفقده لا يمكن أن تعطيه وهكذا تتسع دائرة التسامح لتشمل الجميع، الدين الحنيف ومن خلال القرآن الكريم والأحاديث الشريفة يزخر بالمثل العليا التي تجسد الرحمة بمفهومها الشامل ومعناها الفريد، خلاصة الحديث؛ لا تقسو على نفسك، فالمولى تبارك وتعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، فأحسن الظن بالله، إنه نعم المولى ونعم النصير. طرفة ذات صلة: ذهب رجل إلى طبيب نفسي يشتكي من القلق وأنه يشعر في بعض الأحيان أنه يعمل أشياء لا يريدها، ففحصه الطبيب وتحدث معه قائلاً له بأنه يعاني من انفصام في الشخصية أو بالأحرى الازدواجية، فشرح له بأنه يشعر بأنه ينقسم إلى اثنين ووصف له الدواء، فسأله عن الحساب وكان المبلغ ستمائة ريال فأعطاه المريض ثلاثمائة وسأله عن الثلاثمائة المتبقية، قال خذها من الشخص الثاني.