هذه الحملات المسعورة التي تحاول النيل من تاريخنا ووجودنا، إنما هي في مجملها تجيء لتؤكد لنا أن كل ذي نعمة محسود، وأننا نحيا اليوم تاريخًا مضيئًا يستجمع الحسّاد ويغيظ الكارهين فيلجؤون إلى أساليب عدة لتشويه صورتنا الناصعة عبر وسائل عدة منها الفن، وبعيدا عن محاولات التشويه التي سعى ويسعى إليها الكارهون، لهذا كنا ومازلنا نؤكّد بين حين وآخر على أهمية استعادة تاريخنا المضيء والثري بالشخصيات والأحداث عبر الفن بأدواته العصرية اليوم المتكئة على الصورة وأشكالها المختلفة، وبالتالي نستحث الكتّاب والمنتجين التلفزيونيين والسينمائيين على فتح باب التاريخ لأعمال فنية تحمله إلى آفاق اليوم برؤى تعيده إلينا كما نشاء، إنما نستند في ذلك على الإيمان بتاريخنا وبطولاتنا وشخصياتنا التي جعلت منا اليوم وطنًا يعانق السماء من جهة، وعلى أهمية الفن في فتح نوافذ ضوء ثرية ومؤثرة جدا على تلك الكنوز التاريخية المدفونة في حكاياتنا الشعبية الشفوية من جهة أخرى، وكم من شعوب أخرى حولنا صدّرت لنا وعلى غفلة منا تاريخها كما تشاء لنا أن ندركه، حتى بدأ مختلقًا وموضوعًا في كثير من الأحيان، في الوقت الذي يكفينا أن نفتح نوافذنا على أمسنا القريب لندخل في حقائق وشواهد غاية في البطولات والتضحية.. والفن بأدوات عصره أيًا كانت كان ومازال فاعلاً ومؤثرًا وعميقًا في تقديم التاريخ كما يريد، ففي تاريخنا الشعري مثلاً تبرز لنا قصيدة فتح عمورية في شهر أغسطس من العام (838 م) لأبي تمام (803 - 845م)، كواحدة من الملاحم التي لا تقل بأي حال من الأحوال عن تلك الملاحم التاريخية المتواترة، كالإلياذة مثلًا، وربما لم تحظَ موقعة تاريخية في تاريخنا الإسلامي أو العربي، كما حظيت به موقعة عمورية من حضور وتخليد على الرغم من كونها على المستوى السياسي، أو الاستراتيجي لم تحدث فرقًا واضحًا أو حاسمًا في الصراع التاريخي بين العرب والروم حينها.. إذاً لماذا حظيت هذه الموقعة بهذا الخلود والتذاكر دون غيرها من المواقع التاريخية الشهيرة التي كانت حاسمة جدًا في هذا الصراع العربي الأعجمي.. كموقعة القادسية مع الفرس أو حتى موقعة اليرموك مع الروم وهما المعركتان الأهم في التاريخ التوسعي الإسلامي القديم! لعلّه الفن الذي أحاط بهذه الموقعة.. الفن الذي شحن هذا التاريخ عاطفة أولًا، بتركيزه الكبير على ربط هذه المعركة بعاطفة مستمرة ومستلهمة دائمًا تتمثل باستنجاد تلك المرأة العربية بالخليفة المعتصم من خلال ندائها له، وتلبيته لها وهي حكاية تصدّرت تأريخ هذه الموقعة، وجعلت منها مرجعية خالدة للعزة والكرامة، وهو بعد عاطفي «فنّي» جعل من هذه الموقعة حدثًا تاريخيًا لا تنام عنه أعين الرواة، ولا يتغافله أولئك الذين ينبشون التاريخ بحثًا عن ملجأ نفسي من انكسار الحاضر.. ولعل خير نموذج له قول الشاعر السوري عمر أبو ريشة الذي غادرنا في العام 1990م: رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتّم لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم. في المقابل لا شك أن قصيدة أبي تمام الشهيرة استطاعت أن تأخذ التاريخ معها إلى إبداع شاعر قدم لنا هذه المعركة التي تعد «هامشية» مقارنة بغيرها من المواقع والأحداث التاريخية الإسلامية على أنها «فتح الفتوح»، والسؤال الآن أيهما حمل الآخر إلينا.. الفن المتمثل بالحكاية والقصيدة أم التاريخ الذي احتاج لهذا الفن ليصدّر لنا مثل هذه الموقعة كواحدة من أهم وأكبر المعارك الإسلامية، إنه سؤال الجواب أو جواب السؤال لا فرق.. آخر الأمر يظل تاريخنا في ذمة الفن، حين تطوّع له مشيئة الرواة..!