إبراء الذمة منوط بحسن التدبير ومواصلة الرعاية لمن يرعاهم الفرد.. والوالدان بسلوكهما وتوجيههما وفهمهما وقناعتهما هما من يشكلان الوعي الأولي لأبنائهما قبل أي طرف آخر.. لذلك على الوالدين إدراك أنهما سيتحملان نتائج ما يحدث لأبنائهم مستقبلاً في كل الحالات، أهملوا أو أصلحوا، أصابوا أو أخطؤوا، نجحوا أو فشلوا.. لاشك أن تشكيل شخصية الأبناء والمتعلمين، وتكوين المفاهيم التربوية الأصيلة والنقية لديهم حيث تتجلى في جوهرها ماهية النسق القيمي، الذي يشمل في محتواه حزمة المعارف الراسخة، والعلاقات المختلفة وما يرتبط بها من وعي ثم ممارسات تعبّر عن حقيقة القيمة، وتأثيراتها على التفاعل الإنساني والتشابك السلوكي. هناك تبدو الأطراف المنوط بها مسؤولية التربية للأبناء بداية بالوالدين ثم المؤسسة التعليمية التي لا يتوقف دورها عند حد إمداد أو إكساب الفرد بمجموعة من الخبرات والمهارات التربوية والتعليمية وبناء خارطة فكرة وأساليب هذا التفكير لتحصيل قناعات تعين الأبناء والمتعلمين على مواجهة أمورهم وحياتهم بطريقة لائقة. مع التأكيد على أن جل المسارات والمضامين والمناهج التعليمية والتربوية التي تتبناها مؤسساتنا باختلافها، وتنوع أنماط التعليم بها، تحظى بمحتويات ثرية الدلالة على القيم والأخلاق الحميدة، والتي في جملتها تبني الغاية التربوية، والهدف القيمي المنشود عبر وضوح الهدف منها، وممارسة النشاط المعزز للقيمة في نفوس المتعلمين بصورة مقصودة ومخططة. لكن يبدو أننا نواجه مثيرات من النقع تجعل عقولنا تستعر عبر سؤال مرهق من يربي الأبناء في حاضرنا؟ وتبرز إجابات متعبة.. في غالب الأمر.. اليوم برأيي كل شيء أصبح وأمسى يربي أبناءنا إلا المدرسة والوالدين ليسا بسببهما كلية وإنما بسبب تشتت مصادر تلقي المعارف والوصايا والتوجيهات عند الأبناء والمتعلمين.. فما يحدث حولنا زخم هائل، وطفو مريع، وتدفق متصل من المؤثرات. تأملوا من يربي اليوم ويؤثر حقاً في تفكير ولغة ووعي أولادنا وبناتنا.. وكيف يمكن أن تكون هناك برمجة تربوية محفوفة بالغرابات والفراغات الأخلاقية التي لا تراعي القيم التربوية المنشودة حقاً. هذا الجهاز التلفازي الممتلئ بالقنوات يربي.. صار يجذب فيتحدث ويتكلم مع الأبناء ويمنحهم خيارات وأفكاراً متعددة.. أفلاماً ومسلسلات وبرامج ومضامين غالبا تكون ملغومة وملوثة بلغة رخيصة ومشاهد فاضحة تحاول تصوير أن ما يحدث في قصصها هو الواقع الكبير الدائم. أجهزة ذكية في جل استخدامنا لها جعلتنا أغبياء ألهبت الحواس وجعلتها في فوضى من الإحساس والاستشعار بقيمة الأشياء وحقائقها الصادقة فاختل الأمر، وتبدل التفكير، وتحولت الرؤى.. عقول دفنت واندلقت قلوب في كل محتوياتها السقيمة بطريقة مجنونة. تطبيقات وبرامج وألعاب مصممة بلا أخلاق ولا وعي تحث على الصراع والدماء، وتدعو للعنف، وتوجّه إلى التبلد، وتدفع إلى أحاديث السقوط، وألفاظ التفاهات، وصناعة النيات السوداء. وسائل تواصلية اغتصت بمحتويات، مآل غالبها إلى لهث خلف شهرة، وجري وراء سمعة وتجارة، وسقوط ذاتي عند الكثير، وكسر الخصوصية، وتجنب الحياء، وفضح الأنا، وملاحقة التفاصيل العابثة، ونشر اللامقبول واللامعقول. رفقة سوء (أصدقاء، أقارب، زملاء) من نوع جديد تتجه طموحاتها إلى إشباع الذات بالملهيات والترفيات لا تريد أن تعمل ولا أن تستقيم حياتها.. تقبع ما بين أفكار وحياة اللاشيء، تتناقل بينها حالات فكرية محدودة لا تستوعب ولا تتوعى بالأهم والمهم والأقل أهمية.. يعطلون النشيط، ويوقفون المتحرك، ويحبطون المتطلع.. المهم يعيش للعيش فقط بلا هدف ولا طموح ولا مسؤولية، فينقل مبادئه وقناعاته لزملائه في ساحة المدرسة أو الجامعة.. ويبث أهواءه واختياراته لأصدقائه في السهر والكوفي شوب. تسأل: أين الوالدان؟ أين التربية، المتابعة، الرعاية، التوجيه، المسؤولية؟ ستجد أن الكثير منهم سقطوا في المعمعة والاختلال معهم، فأهملوا حقيقة التربية، وواقع المتابعة المسؤولة بأفكار تأثروا بها ومنها بسبب كل ما سبق أيضاً.. ليثبت أن حتى بعض الآباء يحتاجون إعادة برمجة تربوية لواقعهم وفهمهم للتربية وعلاقاتهم مع أبنائهم.. خصوصاً من تعذّر بأفكار غريبة مبنية وشاذة تقوم على الخلط بين الوصاية والرعاية وبرر بادعاء الحرية والخيارات أو تهرب بالعجز والكلل عن مسؤوليته. لذا فإن ما يحدث اليوم هو هروب كثير من الآباء عن تحمل مسؤوليتهم بمبررات غثيثة غير مقنعة متجاهلين الأمانة.. ويرمون على الأطراف الأخرى لتربية أبنائهم.. كذلك هم غافلون عن تأثير كل المؤثرات والتقنيات والترفيهيات التي يوفرونها لأبنائهم بلا رقابة ولا إحساس حقيقي. ويبقى القول: إبراء الذمة منوط بحسن التدبير ومواصلة الرعاية لمن يرعاهم الفرد.. والوالدان بسلوكهما وتوجيههما وفهمهما وقناعتهما هما من يشكلان الوعي الأولي لأبنائهما قبل أي طرف آخر.. لذلك على الوالدين إدراك أنهما سيتحملان نتائج ما يحدث لأبنائهم مستقبلاً في كل الحالات، أهملوا أو أصلحوا، أصابوا أو أخطؤوا، نجحوا أو فشلوا.. فالرمل ليس فيه مواسم حصاد.. فهل نحن منتهون؟