إن نهضة المجتمعات وتقدمها أساسه القويم الترابط الأسري والتربية الصحيحة الناضجة للمورد البشري، فالدول لا تربي ولكن تساعد الأسر وتذلل لهم الصعوبات لحياة كريمة تسهم في بناء الأجيال وإعدادهم لحمل أمانة صناعة الأجيال المؤثرة بما ينعكس إيجابا على الوطن. عندما تستعرض التاريخ تجد أن منبع النوابغ والمفكرين والأذكياء والفاعلين في مجتمعاتهم يعزى أساساً إلى تلك الأسرة التي اهتمت برعايتهم وتربيتهم وصناعتهم لأوطانهم فأصبحوا فاعلين مؤثرين، ومن هنا نرسل شكراً خاصاً لعميدة الأسرة "الأم" التي تعد المحضن الأول للتنشئة والتربية؛ حيث تقوم بتأسيس أبنائها على تقوى الله وتهتم برعايتهم وتبذل الغالي والنفيس لتنشئتهم التنشئة الحسنة وإخراج أجيال يتميزون بالصلاح والقيم والهوية الإسلامية، والتي دائماً ما تنعكس على أخلاقهم وسلوكهم وتعليمهم، ولذلك قال الشاعر حافظ إبراهيم: الأُمُّ مدرسةٌ إِذا أَعددتَها أَعدَدتَ شَعباً طَيِّبَ الأَعراقِ الأُمُّ رَوضٌ إِن تَعَهَّدَهُ الحَيا ِبالرِيِّ أَورَقَ أَيَّما إيراقِ الأُمُّ أُستاذُ الأَساتِذَةِ الأُلى شَغَلَت مَآثِرُهُم مَدى الآفاقِ إن للأم تأثيراً عظيماً في النهوض بالوطن وازدهاره حينما تقوم بالدور المنوط بها، فهي توجد جيلاً لخدمة الوطن لما يحمله من قيم وأخلاق وأمانة وتضحية، الأمر الذي سينعكس إيجاباً على الناتج القومي وازدهار الاقتصاد وخدمة الإنسانية. إن تربية الأم تربية عظيمة تنعكس آثارها على الطفل حينما يولد حيث تعطيه الحب والحنان وتغرس فيه القيم الوطنية، وتشجعه إذا أحسن وتصوبه إذا أخطأ، وتشاركه الهموم وتعيش معه، وتسانده في اللحظات الصعبة بفكرها وحضنها وحنانها وبذلك تكون قد جعلت منه مشروعا تفتخر به، لأنها لم تألُ جهداً في خدمته وتلبية احتياجاته، حيث صبرت على بكائه وتنازلت عن رغباتها لأجله وهي تبصر النتيجة المستقبلية التي سيكون عليها فكل ما تفعله فداء له تراقبه في كل وقت وحين، وتوصيه بالرفقة الصالحة، وبهذه الوظيفة المهمة تكون الأم قد صنعت أجيالاً لهم أهداف وطموحات تعزز من مكانتهم المجتمعية وتخدم دينهم ووطنهم، وعلى الأم أن تعي ذلك ولا ينبغي أن تتنازل عن حقها في التربية والتعليم، وبخاصة في زمن قد تنازلت فيه بعض الأمهات عن وظيفة الأمومة وأسندوها للخادمة في المنزل حتى أصبحت هي الأم فهي من تهتم بذلك الطفل وتربيه وتعطيه الحنان وتلاعبه وتجلس معه أكثر من أمه التي أنجبته بل وتسهر معه إذا مرض وتراعيه وتوصل له قناعاتها الثقافية والفكرية فيكبر ذلك الابن مشوه الهوية ولديه مشكلات اجتماعية وفكرية فهو ولد الخادمة، وللأسف إن بعض الأمهات لا يفقهن ذلك فهن يعشن اللحظة الحاضرة في زمن الماديات والمغريات متجاهلين مستقبل أبنائهم وصناعتهم وفق الهوية والقيم الحضارية لأمتنا ولكن ما علموا أنهم تركوا تربيتهم للغير ولا يشعرون بهذا الخطر إلا بعد فوات الأوان، وبعدها تندب حظها وتتمنى لو عاد بها الزمن وكرست جهدها وحياتها لأولادها وتربيتهم. ومن النماذج الناجحة لأمهات ساهمن في صناعة رجال أثروا في البشرية على مدى العمر الإمام أحمد بن حنبل الذي توفي والده وهو صغير فرعته والدته فأصبح مذهبه يدرس على مر الأجيال، حيث كانت تحثه على طلب العلم، يقول الإمام أحمد -رحمه الله- عن والدته إنها كانت توقظني قبل صلاة الفجر، فتُحمي لي الماء، ثم تخرج معي إلى المسجد خوفًا عليَّ؛ لأن المسجد كان بعيدًا عن داره، وكانت تنتظره خارجًا حتى يعود، وهكذا تعمل في حياتها بين تربية فلذة كبدها، والسير معه إلى حلقات العلم، ترقُبه وتنظر إليه، ونفسها تطمح أن يكون عالِمًا مهابًا، يَملأ الدنيا علمًا وفقهًا، ولم يُخيب الله رجاءَها، فقد جنت ثمرة تلك التربية في حياتها، حتى أصبح ابنها الصغير إمام الدنيا، وعالمها الهمام، وسيد العلماء بلا منازع؛ حيث حفظ الله به السنة وقمع به البدعة، وأصبح يلقَّب بإمام أهل السنة، إنها الأم الصابرة الصالحة التي وقفت نفسها وحياتها لتربية ابنها على الدين والأخلاق وحب العلم. فنسأل الله أن يرزقنا البرّ بوالدينا وأن يبارك في أبنائنا وأن يوفقنا لتربيتهم التربية الحسنة.