من المفارقات أن يُعنى القانون الذي قدّمه ستيفن تولمن 1958م بتحليل اللغة، وكأنّه قد جمع بين النقيضين عندما انطلق من العقل بقصد التأسيس لمقاربة حجاجية! فمن المعلوم أنّ العقل مرهونٌ بالمنطق في أمثل تصوّراته، وأعني هنا بالمنطق ذلك المنطق الصوري المفضية مقدماته إلى البرهنة (Demonstration) ومن ثَمَّ نتائجه إلى الإفحام -بغض النظر عمّا طال هذا المنطق من انتقادات- في حين على النقيض منه منطق اللغة الطبيعية (غير الصوري) الذي تُفضي مقدماته إلى الحِجَاج (Argumentation) ونتائجه إلى التبرير أو التأثير أو الإقناع لا أكثر، ويكون متّكئًا على إمكانات اللغة في حد ذاتها لا العقل، كلُّ ذلك في محاولة تصوّرٍ يقود إلى ثنائية مربكة -أو هكذا تبدو للوهلة الأولى- بين العقل والواقع، أو بين كينونة الحقيقة في مقابل تمظهرات الحقيقة، أو إن شئت فقل: بين المنطق الأرسطي ومنطق فيتجنشتاين وبيرلمان وتيتيكا وڤان إيمرن. ويمثل قانون تولمن للعبور المنطقي جسرًا لتفسير الظواهر الحجاجية معتمدًا على منطقية الإجراءات التشريعية والقانونية؛ حيث يرى أنّ الحجاج يجري في مجالات أخرى بطريقة مماثلة، ويتمثل هذا النموذج في مخطط يتخذ شكلاً إجرائيًا للحجج، ويكون صالحًا لجميع المجالات الجدلية التي ترمي إلى الوصول إلى الحقائق المحتملة، وتجنّب المغالطات. وتقود إلى تفاعلات ذات خطط لفحص الأفكار من خلال التأكيد على وجهات النظر والدفاع عنها، وصقل الأدلة والأنماط الاستنتاجية، وتؤدي فيه العديد من العناصر الثابتة دورًا في تقديم الحقائق لدعم وجهة نظر ما؛ حيث ترتبط المعطيات (Data) بالمطالبة (Claim) من خلال قانون العبور الذي يكون الضامنُ (Guarantee) فيه مرجعًا له بصفته مبررًا ضمنيا -أو غالبًا ما يكون ضمنيا- ويمثل منطلقًا أو قاعدة عامة تعمل على تبرير مراحل الحجاج ابتداءً من المعطيات وانتهاءً بالمطالبة؛ إذ يمكن -للتوضيح- مقاربة الضامن بالمقدمة الكبرى أو المحمول في المنطق الصوري، والمعطى بالمقدمة الصغرى أو الموضوع أو السبب أو الحجة، والمطالبة بالنتيجة، فعناصر الحِجَاج تعمل على تقديم الحقائق والوقائع والقضايا والتداعيات باعتبارها معطيات لدعم وجهة نظر تُعبّر عن موقف المتكلّم، وصولاً إلى تقديم مطالبات تتمثل في صورة نتائج لتلك المعطيات. ومن أجل ترسيخ هذه المطالبة فإن المتلقي الضمني (implicit reader) القابع في أذهاننا يعتمد على ضامن يُشكل حلقة وصل أو نقطة توافق والتقاء تُقنعه بقبول المطالبة بصفتها توجيها ذاتيا أو نهجًا تقويميًّا؛ الأمر الذي يجعل من هذا القانون نموذجًا مثاليًّا للمرافعات القضائية، فصياغة صحيفة الدعوى وطريقة تناولها تقدّمان معطيات تستند إلى ضامن مؤداه أو وظيفته التبرير الذي يعمل على الربط بينها وبين المطالبات. وهذه العملية وإن بدت معتمدة على المنطق إلا أنَّ التفاعل الحجاجي يقود إلى صناعة نموذج تداولي في نهاية المطاف. وتعد خاصية تعدّد أشكال المعطيات سمة حجاجية بارزة لدى تولمن، وهذا ما يجعله يرى أنَّ وظيفة الحجاج هي التبرير، وما عداها من وظائف تظلُّ مجرد وظائف ثانوية. ونموذج تولمن وإن لم يكن نموذجًا حجاجيًا بالمعنى الدقيق؛ حيث إنَّه -شكليًّا- إلى البرهنة أقرب منه إلى الحجاج، لإغفاله المقام الذي يتطلب متلقيًا، إلا أنه مفيد للإثبات الأقرب إلى صناعة البرهان المنطقي أو إقناع المرء نفسه وليس لإقناع غيره، لذا فإنَّ نموذج تولمن الحجاجي يتجه نحو استيفاء شروط الحقيقة (الدلالة) ويقصي القصدية (التداولية)، وإن كان من الممكن أن نستشف وجود صوت متلق افتراضي ضمني يدلّ عليه الارتباط القائم بين المعطيات في اتجاهها إلى المطالبات. فهو وإن كانت منطلقاته منطقية صورية إلا أنه يتخذ إجراءات مرنة تقود في نهاية الأمر إلى حجاج مبني على منطق اللغة الطبيعية الذي يُفترض أن يكون وسيلة تعاون للوصول إلى قرار منطقي أو شبه منطقي، لذا فإنَّ جوانب الحجة تبدو حدسية وتتطلب أن نأخذ بعين الاعتبار الاستدلالات الطارئة التي تقوم على ديناميكية النشاط التحليلي؛ حيث إنّ وظيفة التبرير تبحث منطقيا في تفسير الاستدراكات أو التدرّجات غير الثابتة المتعلقة بالفهم، وهي في هذه العملية تقوم على محدّدات لكيفية المطالبة وتقييدها وتأسيسها. فتأويل المعاني وتمثلها في العقل لا يتخذ شكلاً صوريًّا صارمًا، فقد سمح تولمن بتقييد نموذجه لخلع ربقة الصورية وحتى لا تتخذ المعاني فيه مسارًا تعميميا، وبعبارة أخرى فإنَّ قانون العبور يسمح بإجراء استثناءات للمطالبة بما لا يُخلّ بالضامن ومبرره؛ فهو كما يرى بروتن ورفاقه توليفة للفرضية وأسبابها وفق تراتبية الحجّة التي تزداد صعوبة كلّما توسّعنا في الأشياء من حولنا، ومن حيث التأسيس فلإنْ كانت المبررات تعمل على إيجاد ضامن للمطالبات، فإنَّ هذه المبرّرات تحتاج بدورها إلى تأسيسٍ ضمني يُستند عليه حدسًا للحكم بالمقبولية من عدمها؛ حيث يُمثل التأسيس داعمًا ضمنيا إضافيًّا لتأكيد صحة الحدس ووضع الضامن على محك الشك لسبر العبور إلى كلِّ مطالبة. ويمكن تقديم مثال توضيحي لما تقدّم، فلو قلنا: "الساعة السادسة مساءً؛ لذا فالدكان مفتوح، إلا إذا كان يوم الجمعة أو حدث أمرٌ طارئ". فيكون المعطى هنا: "الساعة السادسة مساءً"، وتكون المطالبة: "إذن الدكان مفتوح"، ويكون الضامن أو المبرر هنا ضمنيًّا، وهو: "غالبًا ما تكون الدكاكين مفتوحة الساعة السادسة مساء"، ونلاحظ هنا أنَّ صيغة التغليب "غالبًا" لا تتسق مع اشتراطات المنطق الصوري الصارمة الذي سيصنفها على أنّها مغالطة، لذا فإنّ المحدد الكيفي "إلا إذا ..." عمل على تقييد عمومية المعنى التي يُفضي إليها منطق اللغات الطبيعية. على أنَّ الاستغناء عن جملة التقييد (المحدد الكيفي) سيظل أيضًا مقبولاً عُرفًا في هذا النوع من المنطق المرن الذي لا يخضع للصورنة؛ حيث إنَّ الافتراضات المسبقة التي تشي بالمغالطة يمكن السيطرة عليها من خلال الواقع الإنساني والتواطؤ الثقافي والتواضع اللغوي.