ثقافة الهبّة لا تعني أنك تختار الأفضل لأنك تحت تأثير نشاط التسويق والتوجيه وأنت المحتوى الحقيقي لهذه الهبة، فكلما كان القبول سريعاً فقدت خياراتك الذاتية المرتبطة برغباتك؛ لأنك تستجيب لغيرك فقط. فتُصنع حالة تنازلية قد لا تُدرك، وتبقى عقول البعض بين مستقبِل يفهم، وفاهم يستقبل، وبين متلقٍ يتوهم، وواهم يتلقى.. "القطة عطسة الأسد"، سنضحك على هذا القول.. فيما وراء البحار كانت هناك مدينة عظيمة تغشاها الأساطير والخرافات ويسكنها أناس بسطاء يعيشون حياتهم بسذاجة.. في هذه المدينة كان القط له مكانة ومنزلة مقدرة.. وكان الأسد رمزاً عظيماً، وشعاراً لقيمة هذا البلد، ومصدراً للدخل.. لكن الأسود اندثرت ولم يتبق منها.. فأراد الحاكم حلاً فأشار عليه وزيره بأن يتبنى القط المنتشر في البلاد عوضاً عنه؛ كما يمكنه أن يستغله ويستثمره من خلال اقتناء الناس له فهو سنّور يشبه الأسد وقال له سنجعل له قيمة وسيهبّ ويتهافت الناس في تقديره ثم الحصول عليه إذا نشرنا بينهم واستملنا قناعاتهم أن أصل خلقه من الأسد ويحل محله فقالوا كيف، فأقنعوهم بأنه من عطسة الأسد، فكان الأمر كما خطط له وهبّوا باقتناء القطط. ذكرتني هذه القصة بمسألة وثقافة الهبَّات التي تخرج إلينا من وقت إلى آخر حيث تفترش كل المسامع، والآذان، وتغلف العقول بحكايات متنوعة.. تمكث بين مد الغرابة، وجزْر الأكاذيب.. فيتلقى أحدنا ما يتلقى بتنازل عقله فيشوب ذهنه كل شائبة.. كثيرٌ منا لا يعرف خياراته إلا من خلال ما تم إقناعه به أو جذبه إليه عبر خطوات التأثير، والتسويق، وصناعة قراراته دون حول ولا قوة، فلا يدرك كيف يمكن أن يجابه ما يثار من هبّات لأن إرادته ضئيلة، وفكره مسلوب، ورغبته مشدودة دوماً لما يوجّه إليه الآخر. يبرز بيننا في زوايا مجتمعنا وبعض فئاته ثقافة غريبة تتجسد فيما يسمى ب"الهبّة"، ومؤكد أنها سلوك وخيار فردي حر يتحول إلى تداول اجتماعي بتأثير وقوة وسائل الاتصال والتواصل، حيث إن صناعة الهبّة اليوم لا تتطلب جهداً كبيراً.. إعلان من مشهور تواصلي، ومجموعة ممثلين، ومقاطع وصور تظهر كثافة من الزبائن، أو العملاء على خدمة، أو منتج معين يتم إبرازه ونشره من خلال عدد من وسائل التواصل الشخصية بالذات مع "شوية" مفردات ومشاعر وملامح تؤكد أن هذا المنتج لا قبله ولا بعده من الطعم والجودة والمتانة وغير ذلك.. فينتشر الأمر فيصبح هبّة خصوصاً حين يعززه القبول الاجتماعي والجماعي من فئات رقيقة القناعة والفهم ولديها شغف، أو هوس بتجريب كل هبّة. هذه الثقافة وغيرها تؤسسها وتغرسها السمات الشخصية ودرجات الوعي والفهم وقدرة المرء على سيادة قناعاته ونضج فكره، أو اهتزاز شخصيته؛ كما هي نتاج تأثير الوسائل التواصلية أولاً ثم نتيجة التداول الاجتماعي حيث يتلقى أحدهم مشاهد التسويق والاستمالة فتختل داخله كثير من المفاهيم، وترتبك الرؤى حوله فيمسي ويصبح منبهراً بشيء لا يعرفه، ومتعلقاً بأمر يجهله.. المهم أنه جرب. لنتأمل حالة التنازل العقلي حين تتأرجح العقول في مواجهة الطوفان التواصلي وسخونة التأثير، وعنفوان التوجيه فلا مقاومة لأي مستقبل وهو يتغذى بكثافة المحتوى الاتصالي والتواصلي لأنه يقبع دوماً في مساحة الاستقبال الواسع والمتواصل والمفتوح فيصبح عقله تنازلياً ليكون الشخص نفسه هو من يستهدف ذاته فيضحي بوعيه وفهمه ومدركاته مقابل هوس التجريب والتقليد. العجيب والمضحك كم من الهبّات اليوم في الملبس، وطريقة الكلام، وأساليب العيش، والاحتفال، والمساحيق، والمطعم والمشرب، والبناء، والسلوك، والتقليعات، والقصات، والخدمات.. بالأمس كنا نتجاهلها ونهملها، ولم يكن لها قيمة وقد نستنكرها عبثاً مع أنها بين أيدينا، وكم من تلك قد لا يلائمنا أو يناسبنا أو نريده ونرغبه لكن الزخم التواصلي والمجتمع جعل الكثير يعود إليها ويهيم فيها حباً ويرغب تجريبها ثم تنتهي ويأتي المستقبل بهبّة أخرى فيتلاحقها الناس. ثقافة الهبّة لا تعني أنك تختار الأفضل لأنك تحت تأثير نشاط التسويق والتوجيه وأنت المحتوى الحقيقي لهذه الهبة، فكلما كان القبول سريعاً فقدت خياراتك الذاتية المرتبطة برغباتك؛ لأنك تستجيب لغيرك فقط. فتُصنع حالة تنازلية قد لا تُدرك، وتبقى عقول البعض بين مستقبِل يفهم، وفاهم يستقبل، وبين متلقٍ يتوهم، وواهم يتلقى لوسائل إعلام وتواصل ذات جهات خمس، وأبعاد ثلاثية.. ويبقى القول: الحقيقة أن الرغبات السائلة لدى الناس، وشدة تأثير الوسائل أنتجت تحولات ومتغيرات في واقع الفهم والسلوك الذاتي لدى كل متلقٍّ لما تطرحه. هذه المتغيرات المثيرة شكلت مأزقاً كبيراً في التعاطي الفردي والمجتمعي للمحتوى في تلك الوسائط وحتى لشكلها، ووسط تلك الجهات المحفوفة بتلك الأبعاد المتعددة التأثيرية الصاخبة المتطفلة على قناعاتنا يضع أحدنا نفسه فيسمع ويتلقى الكثير من المضامين التي تقحمه داخلها قبل أن يستوعب فيهبَّ إلى ما لا يرغب ليرغب فيما هبّ.