حيت أوروبا والعالم مؤخراً الذكرى ال29 لمذبحة سربرنيتشا، والتي عادة ما توصف بأنها أسوأ جريمة ارتكبت على التراب الأوروبي منذ الحرب العالمية الثانية. وأقيمت مراسم إحياء الذكرى في مركز بوتوتشاري التذكاري بمدينة سربرنيتشا، في جمهورية البوسنة والهرسك، وفي العديد من الدول الأوروبية الأخرى، والولاياتالمتحدة. وقعت المجزرة في مدينة سربرنيتشا في 11 يوليو عام 1995، والأيام التالية. وكان معظم الضحايا من الرجال والأطفال البوشناق (مسلمي البوسنة) بعدما جرى فصلهم عن النساء والبنات والأطفال الصغار، الذين نقلوا بالحافلات إلى مناطق يسيطر عليها الجيش البوسني. وبحسب المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في مدينة لاهاي بهولندا، قتل حوالي 8000 من مسلمي البوسنة في المذبحة التي نفذها جنود من صرب البوسنة. ووفقاً لمعهد المفقودين من البوسنة والهرسك، لايزال هناك 800 ضحية ما زال البحث جارياً عنهم. وجرى يوم 11 يوليو الجاري دفن رفات 14 من ضحايا الإبادة الجماعية بعدما جرى تحديد هويتهم على مدار العام الماضي، وذلك في مركز بوتوتشاري التذكاري (المقبرة الجماعية للمذبحة، والتي تضم إجمالاً حوالي 6751 من رفات الضحايا). وأودت الحرب البوسنية، بين الكروات والمسلمين والصرب، بحياة حوالي 100 ألف شخص خلال الفترة بين عامي 1992 و1995. وبعد مرور نحو ثلاثة عقود على انتهاء الحرب، لا تزال جمهورية البوسنة والهرسك، التي تقع في منطقة البلقان، منقسمة بشدة على أسس عرقية. كانت الأممالمتحدة وضعت سربرنيتشا تحت حمايتها في عام 1993، وجرى تكليف وحدة هولندية من قوات حفظ السلام الأممية بحماية اللاجئين في هذا الجيب. وفي 11 يوليو اجتاحت وحدات من صرب البوسنة سربرنيتشا. وأخفقت قوات حفظ السلام في حماية الضحايا. وفي عام 2022، اعتذرت الحكومة الهولندية لعائلات الضحايا لإخفاق قواتها في حمايتهم. عقاب الجناة وخلصت المحكمة الجنائية ليوغوسلافيا السابقة في لاهاي بهولندا، بشكل قانوني، إلى ارتكاب أعمال إبادة جماعية في سربرنيتشا. وقضت المحكمة بالسجن مدى الحياة بحق زعيم صرب البوسنة إبان فترة الحرب، رادوفان كارادزيتش، وقائد جيش صرب البوسنة (جمهورية صربسكا) راتكو ملاديتش. وبالإضافة إلى القائدين، أدين 47 آخرون بارتكاب جرائم في سربرنيتشا، وصدرت بحقهم أحكام سجن بلغت إجمالا 700 سنة. تبني قرار الأممالمتحدة وصوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة في مايو الماضي لصالح تخصيص الحادي عشر من يوليو من كل عام يوما عالميا لإحياء ذكرى الإبادة الجماعية في سربرنيتشا. ويبدأ ذلك رسميا اعتبارا من العام المقبل 2025، بعد ثلاثين عاما من المذبحة. وصوتت 84 دولة عضو في الجمعية العامة لصالح مشروع قرار برعاية ألمانيا ورواندا- وهما دولتان شهدتا أعمال إبادة جماعية في القرن العشرين. وصوتت 19 دولة ضد القرار، وأحجمت 68 عن التصويت. وفي نهاية المطاف، صار الحادي عشر من يوليو سنويا «اليوم الدولي للتفكر في الإبادة الجماعية في سربرنيتشا». وضم مؤيدو القرار الولاياتالمتحدة والمملكة المتحدة، ومعظم دول الاتحاد الأوروبي، وكثيرا من الدول الإسلامية، ودول يوغوسلافيا السابقة، باستثناء صربيا. وصوتت الصين وروسيا ضد مشروع القرار، وكذلك المجر. وامتنعت ثلاث دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي عن التصويت على القرار، وهي قبرص وسلوفاكيا واليونان. وشهدت بعض الدول مواقف مختلفة في هذا الشأن على الصعيد الداخلي، ومنها بلغاريا، على سبيل المثال، حيث أفادت تقارير إعلامية أن الحكومة المؤقتة برئاسة ديميتار جلافشيف حاولت الانسحاب من قرار الأممالمتحدة. وذكرت مصادر أن جلافشيف بعث برقية لمندوبة بلاده الدائمة لدى الأممالمتحدة اشيزارا ستوييف يطلب منها في اللحظة الأخيرة تغيير موقف بلغاريا قبل التصويت على القرار الخاص بسربرنيتشا. وتردد أن ستويفا تجاهلت تعليمات جلافشيف، وبذلك أيدت بلغاريا القرار، الذي شاركت في صياغته. وفي معرض تعليق على موقف بلغاريا، قال رئيس البلاد رومين راديف، إن من غير الملائم للحكومة البلغارية أن تظهر ترددا وتناقضا بالنظر إلى أن بلغاريا شاركت في صياغة القرار. التوتر بين صربيا والبوسنة والهرسك وقوبل تبني الجمعية العامة للقرار بمعارضة شرسة من حكومة صربيا وزعماء صرب البوسنة الذين قللوا من أهمية المذبحة، ورفضوا أن يعترفوا بها كإبادة جماعية. وهاجم رئيس صربيا ألكسندر فوتشيتش، والذي طار إلى نيويورك خصيصا من أجل التصويت، نص القرار بشدة، واعتبره بعيدا عن تحقيق المصالحة بين البوشناق والصرب في البوسنة، وقال إنه يزيد «الانقسام، وأزمة إقليمية في البلقان». وفي شهر أبريل الماضي، تبنى برلمان جمهورية صربسكا، أحد الكيانين اللذين يشكلان جمهورية البوسنة والهرسك، وثيقة تنكر الإبادة الجماعية في سربرنيتشا، رغم اعتراف المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا بها وتوثيقها، وإثباتها. وتقول الوثيقة الصربية إن ضحايا المذبحة لم يكونوا من المدنيين، وقدرت عددهم بما يتراوح «بين 1500 و2000، أو 3000» على الأكثر. يشار إلى أنه ثبت في يقين المحكمة في لاهاي أن الضحايا كانوا مدنيين، بل «أسرى حرب»، وقدر القضاة عددهم بنحو 8000. وجهات نظر متناقضة داخل البونسة والهرسك لا تحيي جمهورية البوسنة والهرسك ذكرى الإبادة الجماعية في سربرنيتشا يوم 11 يوليو، رسميا، على مستوى الدولة، بسبب الانقسامات السياسية العميقة بالداخل. وقرر مجلس وزراء البوسنة، للعام الخامس على التوالي، عدم إعلان 11 يوليو يوم حداد. وجاء رفض مثل هذا الاقتراح بسبب حق النقض (الفيتو) الذي يتمتع به نائب الرئيس، والذي ينتمي لصربسكا. واعتمدت الجمعية الوطنية (البرلمان) في جمهورية صربسكا بيان احتجاج شديد على قرار الأممالمتحدة بشأن سربرنيتشا. وقال رئيس صربسكا، ميلوراد دوديك، إن الموافقة على القرار ستجلب أضرارا لا يمكن إصلاحها و»ستشكل نهاية البوسنة والهرسك». وهدد دوديك بأن صربسكا، حيث تقع سربرنيتشا، سوف تنفصل عن جمهورية البوسنة والهرسك. وعلى النقيض من ذلك، أكد العديد من المسؤولين المحليين والدوليين أهمية إحياء ذكرى الإبادة الجماعية في سربرنيتشا، كرسالة تذكير بالالتزام بإقامة مستقبل أفضل للجميع. الاتحاد الأوروبي يحذر: لا مكان لمن ينكر المذبحة أصدر منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل والمفوض الأوروبي لشؤون التوسيع أوليفر فارهيلي بيانا مشتركا يوم الثلاثاء الماضي، في ذكرى الإبادة الجماعية بسربرنيتشا، جاء فيه: «تشكل الإبادة الجماعية في سربرنيتشا واحدة من أحلك اللحظات في التاريخ الأوروبي الحديث. ندعو الزعماء إلى رفض الخطاب الذي يثير الخلاف، وإلى العمل من أجل الحقيقة والعدالة والثقة والحوار›. وأكد المسؤولان الأوروبيان أنه «›لا مكان» في الاتحاد الأوروبي لمن ينكر الإبادة الجماعية في سربرنيتشا، ويحاول «إعادة كتابة التاريخ... وتمجيد مجرمي الحرب›.» كما أشارا إلى أن اتفاق زعماء الاتحاد الأوروبي على فتح محادثات انضمام البوسنة والهرسك للتكتل في مارس المقبل، يشكل «فرصة جوهرية» أمام سراييفو «كي تعزز الإصلاحات» التي من شأنها تعزيز الديمقراطية. وأضافا: «نكرر التزامنا القاطع بمستقبل البوسنة والهرسك داخل الاتحاد الأوروبي كدولة واحدة، وموحدة، وذات سيادة». وعلاوة على ذلك، تلقت المفوضية الأوروبية سؤالا أثناء مؤتمر صحفي يوم الثلاثاء الماضي بشأن «إمكانية تعليق» مفاوضات الانضمام للتكتل مع صربيا، حال عارضت السلطات الصربية إدانة الإبادة الجماعية، وأكدت وجود تداعيات محتملة. سراييفو والإبادة الجماعية في غزة وفي مؤتمر الإبادة الجماعية الذي عقد بالعاصمة البوسنية سراييفو قبل الذكرى ال29 لمذبحة سربرنيتشا، أكدت رئيسة سلوفينيا ناتاشا بيرك موسار أن على المجتمع الدولي وقف أعمال الإبادة الجماعية. وأكدت الرئيسة السلوفينية أهمية الأمر، ليس فقط بسبب الفظائع التي شهدتها سربرنيتشا، ولكن أيضا الفظائع التي نجمت عن عدم الوفاء بتعهد أن ذلك لن «يحدث مرة أخرى أبدا» في أي ركن من العالم. ودعت بير موسار إلى بذل جهود متواصلة للإقرار بأعمال الإبادة الجماعية ومنعها، والحفاظ على الكرامة الإنسانية للجميع، في إشارة إلى الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. وقالت الرئيسة: «إن ما يحدث في غزة يشكل هزيمة للإنسانية.. يتعين على الساسة أن يتوقفوا عن التجاهل، أن يتحركوا ضد سلوك الإبادة الجماعية».