الابتكار ليس ثمرة العبقرية الفردية، بل نتيجة الذكاء الجمعي، حيث يتطلب الابتكار تلاقي وتلاقح الأفكار والرؤى ودمجها لتسليط الضوء على "البؤر المعتمة" وفتح الباب على مصراعيه لقبول الاحتمالات في عمل المؤسسات بل في شتى مجالات الحياة. الكاتب ماثيو سِيد في كتابه (أفكارٌ متمرِّدة - قوَّة وثراء التفكير المتنوِّع) يرى أن للتنوع أهمية كبيرة، كثيراً ما نغفل عنها في الوقت الذي نولي فيه اهتماماً كبيراً بالذكاء التقليدي والمهارات الفردية، حيث يأتي التنوع الإثرائي في عدة أشكال، منها التنوُّع الديموغرافي، والتنوُّع المعرفي، ويُقصد به تنوُّع العقول التي نتواصل معها باستمرار، والتي من مزاياها تمكِّيننا من تسليط الضوء على "المناطق العمياء"، وتوسيع نطاق الخبرات، وإنتاج أفكار أكثر وذات جودة أعلى. اعتادت الكثير من المجتمعات التركيز دائماً على الفرد أكثر من الجماعة. وهو ما يحدّ من إدراكنا لقوَّة الجماعة وقدرتها على الإثراء والإبداع، فعند التأمل مثلاً لمستعمرة النمل، تستطيع كل نملة فيها جمع الغذاء والاصطفاف في طابور واحد مع الآخرين، ما يجعل المستعمرة ككلٍّ قادرة على إنجاز عددٍ أكبر من المهام المُعقدة، مثل العثور على مصادر الطعام وبناء المنزل. وتنطبق الفكرة ذاتها على البشر، إذ تتحقق إنجازات عظيمة حين تجتمع مجموعة من الناس معاً وتجتمع المهارات والخبرات المتنوعة في العمل على مهمةٍ واحدة، وتنطبق هذه الفكرة على شتى المجالات، العلوم، والفنون، والتجارة، والرياضة؛ إذ يثمر تعاون العقول المُختلفة عن أفضل النتائج؛ وهنا يلعب التنوُّع الدور الأكبر. ومن العادات الطبيعية التي ألفناها أن نحيط أنفسنا بأناسٍ يشاركوننا معتقداتنا وآراءنا الأمر الذي يشعرنا بالقبول والانتماء، ولكن ذلك في الوقت نفسه، قد يشتت أحكامنا ويعرقل أداءنا الجماعي كفريق!. ففي إحدى التجارب، اطّلعت مجموعتان من الأشخاص على فيديوهات لمشاهد تحت الماء، المجموعة الأولى من اليابانيين، والأخرى من الأميركيين. وحين طُلب من المجموعتين وصْف ما رأوه، أعار الأميركيون انتباهاً أكثر للأسماك، بينما ركَّز اليابانيون على الماء والصخور وباقي العناصر، بعد ذلك، اطلعت المجموعتان على المشاهد نفسها، ولكن بعد إجراء القليل من التغييرات فيها حيث تناثرت بعض الأشياء في المشهد، وهنا لاحظ الفريق الياباني التغييرات، بينما عجز الفريق الأميركي عن ذلك. تكشف هذه التجربة عن أهمية التنوُّع؛ الذي يؤدي إلى الذكاء الجمعي، ويجنِّبنا "العمى الجمعي"، الذي يبدد جهود الفريق. فالاختلافات الثقافية قد أثَّرت في رؤية كل مجموعة للمشهد، والتي لم تكن مثالية على الإطلاق؛ فقد كان لكل فريق "بؤرُته المُعتمة"، ولكن كلاً منهما يكمل الآخر بملاحظة الصورة الكاملة إذا ما أُدمجت الرؤى. ويبقى بناء فريق متنوِّع الأفراد ليس أمراً سهلاً؛ فقد يختلف الأشخاص في الخبرات والاتجاهات والاستعدادات، ولكنهم إنْ هم اتبعوا طريقة التفكير أو العمل نفسها، فلن يتحقق التنوُّع في الفريق. وحتى إذا نجحت في بناء فريقٍ متنوِّع، فسيظل عرضة للتأثر وينصاع أعضاء الفريق لتفكير مسار العمل في المؤسسة المعتاد، ويتجاهلون الأصوات الفردِيَّة المُميَّزة. وبذلك تحوِّل المؤسسة أفرادها إلى نُسخ متطابقة في طريقة التفكير والأداء. ولكي تتَّسم الجماعة بالحكمة، يجب أن تضُم أفراداً ذوي رؤى مُتمرِّدة يميلون إلى تحدي الرؤى التقليدية والأفكار الجامدة، ويساعد بعضهم بعضاً في رؤية مشاهد أكثر من الحقيقة الكاملة. كما أن تحوُّل الأفكار ووجهات النظر أيضاً أمر مطلوب، فلكي تستطيع الجماعة حل المشكلات، على جميع أفرادها إدراك القصور في فهمهم الجمعي. وللمقارنة بين فريق المُتمرِّدين وفريق الأفراد المتطابقين في الأسلوب والأفكار، ننظر إلى الوظائف التي تتضمَّن التوقُّع، فنجد مثلاً أنه إذا استخدم عدد من الاقتصاديين النموذج نفسه لتوقُّع التغيُّرات المستقبلية في السوق، فسيصلون إلى النتائج نفسها. ولكن، إذا استخدموا نماذج مختلفة، فسيتوصلون إلى معلومات واستنتاجات مغايرة. وبذلك، تزداد احتمالات الوصول إلى نتائج أدقّ. وينطبق الأمر أيضاً على المجالات الأخرى. ففي كل مجال يوجد جزء يعنى بالتفكير والترتيب المستقبلي، فمن الطبيعي قبل اتخاذ القرارات دراسة الأثر الذي ستحدثه. أما بالنسبة للتوقُّع، فلفريق المتمرِّدين قدرة أعلى على رؤية احتمالات أكثر من غيرهم. طرقت خلاصة كتاب "أفكار متمرِّدة" في باب علم التنوُّع، مؤكدةً أن الابتكار ليس ثمرة العبقرية الفردية، بل نتيجة الذكاء الجمعي، حيث يتطلب الابتكار تلاقي وتلاقح الأفكار والرؤى ودمجها لتسليط الضوء على "البؤر المعتمة" وفتح الباب على مصراعيه لقبول الاحتمالات في عمل المؤسسات بل في شتى مجالات الحياة. وعندما نرى التنوُّع من ذلك المنظور، تتعلَّم أن اختلاف الآخرين معنا لا يعوق نجاحنا بل يعززه. ونتعلم أن الآراء المُتشعِّبة تخلق مجتمعاً ديناميكياً مرناً وعنصراً رئيساً لتحقيق النماء وأكثر.