لاشك أن كثيراً من المقولات الكلاسيكية قد انهارت مع تطور الحركة الشعرية في العالم بشكل عام، وفي العالم العربي بشكل خاص، وبتنا نشهد تعايش كثير من المتضادات التي شكلت ثنائيات صراعية في الحركة الأدبية، ولعل من جملتها تلك الثنائية التي تفصل بين اللغة الشعرية واللغة العقلية، فبينما تفصل لغة الميتافيزيقيا الفكر عن الحواس والتفاصيل والمهمش، وتنحو بها نحو الأفكار الكلية، فإن اللغة الشعرية تزجه في غمارها متمسكة بظواهرها الخاصة، منطلقة من التفاصيل الحياتية المكون الأساس في تشكيل الرؤيا العميقة للحياة التي يصبح فيها الثانوي والمهمش محوراً رئيساً وعنصراً بنيوياً في تشكيل رؤيا الشاعر وفلسفته للحياة، وربما تكون تجربة قصيدة النثر خير مثال على التدمير الفادح للأبراج العاجية التي وضعت القصيدة في كثير من تشكلاتها ضمن دائرتها، وهذا ما سنتوقف عند مثال دال عليه من خلال مجموعة: منذ أول تفاحة للشاعر محمد خضر، هذه المجموعة التي انحازت بشكل واضح للجزئي وللتفاصيل اليومية المهمشة لتشكل رؤاها الكلية التي تعكس تجربة الشاعر معها، وهي وإن غاصت بالتفاصيل إلا أنها لا تشكل انعكاساً تصويرياً ساذجاً للواقع بل تضمر بعداً سيميائياً غائراً في الحياة، وهذا ما عبّر عنه تودوروف عندما ذهب إلى أن الأدب أكثر كثافة وإفصاحاً من الحياة اليومية، يوسع من عالمنا ويحثّنا على تخيّل طرائق أخرى لتصوره وتنظيمه، فالأدب يفتح بطريقة لا نهائية إمكانية هذا التفاعل مع الآخرين، وهو إذن يثرينا لا نهائياً، ويزودنا بإحساسات لا تعوّض تجعل العالم الحقيقي مشحوناً بالمعنى، وتجعله أكثر جمالاً. عالم مليء بالتفاح: يفتتح الشاعر مجموعته بعتبة مراوغة (منذ أول تفاحة)، فهي مشكلة من بنية لغوية قائمة على الظرف المتصاحب مع تركيب إضافي، تشكل فيه الوحدة الدلالية (تفاحة) بؤرة الدلالة ومركز إشعاعها، فإذا كان الظرف (منذ) يفتح المجموعة على زمن ممتد، من لحظة تأريخية وميثلوجية مغرقة في القدم إلى لحظة حاضرة قد تستمر مع الزمن، فإن هذا الانفتاح سيقيد بجمالية محددة تحدثها الثيمة (تفاحة)، فهي حمالة أوجه حسب ما يشير إليه إرثها الدلالي الذي يدور في فلك الغواية والحرب، الحياة والموت، ويمنحها هذه العراقة الدلالية أنها أقدم فاكهة عرفتها البشرية، فهي لذلك حاضرة بقوة في الميثولوجيا اليونانية (تفاحة أفرديت) و(تفاحة بياض الثلج)، وفي المورث الديني الإسلامي والمسيحي (تفاحة آدم)، وحتى في النطاق الفيزيائي (تفاحة نيوتن)، لاشك أن كل هذه الحمولات حاضرة في سيمياء العنوان عند الشاعر محمد خضر، لكن الدلالة الأقرب لروح المجموعة، هي تلك التي تربط التفاحة بالخطيئة البشرية، بكل ما تحمله من غوايات وموت، ذلك الموت الذي يقتل جماليات الحياة ويفقدها مبرر وجودها ومن هنا تحتفي المجموعة بتفاصيل هذا المقولات المفضية إلى الاحتفال بجماليات الحياة من حرية وأمل، إنه احتفال ببياض الحياة ومناحيها. المهمش والتفصيلي المفعم بالكلي: تشير المجموعة إلى احتفاءات بتفصيلات تشكل الأنا فيها مركزية واضحة، فهي تحتفي بتفاصيل حياة، قد تبدو تفصيلية وهامشية للوهلة الأولى ولكنها تحمل عمقاً فنياً في رؤية التجربة، ولاشك أن ضمير الأنا قد يكون دالاً على الأنانية، ولكن الأنانية هي نزعة فلسفية ترى أن الأنا هو الكائن الوحيد الموجود، صحيح أن غرابة النظرية تحكم عليها بالتهميش، ولكن لا يمنعها من أن تصير برنامجاً لإبداع أدبي، وهذا ما يبدو في التوقف عند قصائد من مثل: صورة العائلة، إلى ابني قصي، كأننا لم نكبر يوماً، وغيرها، بل إن الشاعر ينطلق في تقديم مفهومات كبرى، ربما لم يستقر النقد والفكر على وضع حد لها حتى الآن، نرى الشاعر يجنح بها نحو التفاصيل، لتوضيح رؤيته الخاصة التي ترمي عرض الحائط بكل تعاريف المنظرين والمتفلسفين، يقول في قصيدة ( ما هو الشعر): الفتاة ذات القميص الأخضر المتكئة على جذع متين في الحديقة العامة التي تتساقط غرتها على الجبين والخاطر وعن مقهى جديد للأرجيلة.. في كل مرة.. كنت أفهم أنه مثل خليط عشوائي ويخيب ظني. لاشك أن انطلاق الشاعر من تفاصيل لقاء عابر بفتاة بكل ما يحمله من أسئلة عفوية مألوفة، ثم بالوصول إلى اللحظة المتوقعة (خيبة الظن) تحمل بين ثناياها بعداً عميقاً لجماليات التفاصيل، فهي قد لا تعني الآخرين بصورة مباشرة، ولكنها تحمل بين طياتها وجداً إنسانياً غير عابئ بالفلسفات والتنظيرات، وكأن الحياة أبسط من كل تعقيدات من يثقلها بتأويلات فلسفية تبعدها عن معناها الحقيقي. وفي الآن ذاته يتخذ لنفسه تفاصيل مهمشة للتعبير عن مقولات كبرى، فالفراشة هي أداته للتعبير عن الحرية، وهي حمالة المعنى، عبر تفاصيل مرئية بصرية، تعكس حالة داخلية مهمومة بهاجس التعبير وبأداة تواصلية تعكس الحالة النفسية للشاعر: الفراشة التي دخلت من نافذة المطبخ التي كانت تحوم لأيام في كل الغرف ترتطم بالسقف كلما حلمت بالهواء.. الفراشة التي انتحرت مؤخراً بسعادة مفرطة في زجاج خل التفاح المفتوحة من زمن التي كتب على إحدى جوانبها "قد تكون المواد المحفوظة قابلة للفساد إذا ترك الباب مفتوحاً" فالشاعر يستثمر كل ما يقع بين يديه من مفردات حياتية، ومشاهد حياتية، ليعيد عجنه وتشكيله من جديد في تقديم حالته الشعرية، إننا أمام نص يحتفي بالحرية وهي إحدى مقولات الحياة الكبرى، بأدوات بسيطة تعتمد المشهدية والخبرة اللغوية الحياتية، فلا يتخيل متخيل أن يصبح ما يدوّن على علب الطعام، من محظورات تعرضه للهواء الذي سيسبب تلف المادة المحفوظة فيها، سيتحول ذلك إلى عنصر مهم في تشكيل لغة الصورة اليومية، فالشاعر هنا يكسر النمط البلاغي المألوف، ليضخ فيه روحاً جديدة لا تخلو من مغامرة، ولكنها في الوقت ذاته لا تخلو من دهشة محببة، لا سيما عندما ينظر إلى الصورة في كليتها، إذ تتحول الفراشة إلى قناع، وصراعها مع الهواء يتحول إلى صراع هادف للبحث عن كينونة الإنسان، ومن هنا تصبح الثنائية الضدية (انتحرت/ بسعادة مفرطة)، مثيرة لشهية التأويل فلا علاقة منطقية بين الانتحار وهو فعل تندحر فيه الحياة، والسعادة وهي مصدر ضاج بالحياة، إلا النظرة الساخرة، سخرية سوداء من هزلية الحياة القائمة على التناقضات والمتضادات. كسر النمط بث للحياة: لا شك أن عناصر مهمة تدفعنا إلى القول بأن مجموعة منذ أول تفاحة فيها كسر عنصر النمطية في قصيدة النثر، ولكن الهاجس الأساسي في المجموعة هو هاجس تجريبي ولغوي، فإذا كانت القصيدة تخلص للمهمش واليومي باعتبارهما من أدوات قصيدة النثر الرئيسة التي باتت رائجة الآن، إلا أنها تحاول البحث عن مصادرها التشكيلية في ينابيع أخرى عبر بحث عن مرجعيات للصورة مختلفة مستمدة من تجربة الشاعر نفسه وتحاول أن تعكسها في تشكيل النص، وهذه المحاولات وإن كانت محفوفة بالمغامرة، إلا أن المغامرة هي ديدن الشعر وهاجسه في تأصيل لغة مختلفة ونمط مختلف، كي يصبح الشعر (ضد النسيان)، أو (صفقة سرية مع الأحلام)، حسب تعبير الشاعر، فعندما تكبر الأحلام، وتتسع الجراح تتوقف القصيدة عن التأتأة.