لا يختلف اثنان في أن طريقة تلقي الأعمال الإبداعية تختلف باختلاف أجناسها وأنواعها؛ لذلك فإن التعامل مع الأعمال السمعية البصرية يكتسي صبغة خاصة وتعاملا مخصوصا. ولا ريب أن المسرح – باعتباره إبداعا يزاوج بين جانبين: أدبي يتمركز حول النص المسرحي المؤلَّف، وفنِّي يقوم على تجسيد الممثلين لهذا النص الأدبي على خشبة المسرح بعد اشتغال المخرج عليه وتكييفه مع رؤيته الفنية - (لا ريب) أنه شكل موضوعا لتفكير عدد من الفلاسفة والباحثين والمبدعين على مر الأزمان. عندما وضع "أرسطو" كتابه الشهير فن الشعر، الذي خصصه لنوعي المسرحية: التراجيديا/ المأساة، والكوميديا/ الملهاة، ألمح إلى أن الإبداع المسرحي يحقق للمتلقي نوعا من "التطهير النفسي" CATHARSIS. فعندما يدخل المتلقي إلى المسرح لمشاهدة عمل مسرحي ما، ولاسيما عمل تراجيدي بوصفه – حسب أرسطو –"محاكاة لفعل نبيل" على خلاف الكوميديا، فهو يبحث من خلال التماهي ما الأحداث التي يشاهدها، بل عيشها كأنها واقع ملموس، عبر إزالة ذاك الجدار الوهمي الذي يفصل المشاهد عن الممثلين، وكذا الواقع عن الخيال، بالانغماس الكلي في الأحداث والتفاعل النفسي الوجداني معها، (يبحث) عن خلق توازن نفسي في حياته؛ بين الطاقة السلبية التي راكمها من خلال معاناته في حياتيه العملية والشخصية، ومحاولته تفريغ ذاته من تلك الشحنات السلبية عبر التماهي مع الأحداث ومع الشخصيات؛ فيبكي لبكائها ويتعاطف معها، ويشعر بالشفقة عليها، ويقلق لقلقها. وبتفاعل المتلقي مع الممثل المسرحي، إنما يتخلص من هذه المآسي ومن ذاك الحزن والقلق... ويعوضهما بالشفقة والرحمة وتنقية ذاته من كل النوازع الشريرة. وبهذا، تعتبر المأساة كما نظَّر لها أرسطو وسيلة علاجية لا شعورية للإنسان. وقد ظل هذا الاعتقاد سائدا لقرون طويلة إلى أن جاء المسرحي الألماني "برتولد بريخت" الذي كان له رأي مخالف. يعتبر "بريخت" أن أرسطو جانب الصواب؛ فعندما يتماهى المتلقي مع الممثل المسرحي، ويندمج في الأحداث، يؤثر ذلك سلبا على عملية التلقي التي تصبح آلية لا تُحكِّم العقل ولا المنطق. بعبارة أوضح؛ يؤدي التلقي الأرسطي إلى تغييب عقل المتلقي واستيلابه ومصادرة حقه في النقد والتحليل؛ ومن ثمة يصبح عبدا لما يشاهد، غير قادر – بسبب اندماجه الكلي في الأحداث – على إبداء الرأي أو التعبير عن معارضته لفكرة معينة... يقترح بريخت خلق نوع من "المسافة النقدية" بين المتلقي والعمل المسرحي المشاهَد؛ مسافة ستتيح للمشاهِد أن يُبقِي ذلك الجدار الوهمي الفاصل بين المتلقي/ الواقع والممثلين/ الخيال قائما محدد المعالم؛ وهو ما سيمكنه من متابعة واعية للعمل المسرحي، وسيتيح له تحديد مكامن القوة فيه ومواطن الضعف والخلل. بل إن هذه المسافة النقدية ستجعل عقله حاضرا غير غائب، وستعزز لديه ملكة النقد، وستيسر له أن يستقبل بكل أريحية جُماع الرسائل التي يحتويها العمل المسرحي. وهكذا، إذا كان التلقي الأرسطي يجعل المتلقي يندمج في متابعة الأحداث ويتماهى معها، محققا في ذات الوقت المتعة الفنية والتطهير النفسي عبر المشاهدة غير الواعية، فإن التلقي البريختي يرُجّ المتلقي ويحرك ذهنه، دافعا إياه إلى استحضار ملكة النقد لديه، ومتابعة العمل المسرحي متابعة واعية مسؤولة تتيح له نقده وإبداء الرأي حوله، بل والاستفادة منه؛ فالعمل المسرحي هو في حد ذاته مستلهم من الواقع، حاضرا كان أو ماضيا، ومبني عليه؛ وبالتالي فهو معبر عنه وعن اختلالاته، وربما يقترح حلولا للخروج من مآسيه. بقي أن نشير إلى أن ما أسلفناه عن التلقيين الأرسطي والبريختي يصدق كذلك على تلقي الأعمال السينمائية، ما دامت تقوم على نفس الأسس التي قام عليها العمل المسرحي، مع احترام الفوارق بطبيعة الحال. *أستاذ مبرز للتربية والتكوين في اللغة العربية المغرب أرسطو نبيل موميد نبيل موميد * كتاب فن الشعر لأرسطو