يولدُ المرءُ وله عينان يُبصرُ بهما محيطه، بأبعاده الدقيقة، كما هي في الواقع المنظور، إضافةً إلى عينٍ ثالثةٍ مجازيّة، تَرى ولا تُرى ولا تكتفي بالبصر بل يرافقها حكم صاحبها الشخصيّ والنفسيّ؛ فهي ترى الأشياءَ والمواقف في الأغلب بصورةٍ مكبّرةٍ ومضخّمة، أو أسطوريّة، لذلك يُمكن أن يُطلق عليها «العين الأسطوريّة» التي لها صيروراتها التي تسهم في تأطير طبيعة علاقة صاحبها بمحيطه، وفي كيفيّات نظرته وحكمه على ذاته وعلى الآخر. في مرحلةِ الطفولةِ، تكون «العينُ الأسطوريّة» أقربَ إلى براءة الطفولة؛ إذ يرى عبرها الطفل أباه بطلًا لا يُقهر، يمكنه وحده أن يواجه جيشًا عرمرمًا ويهزمه، وأن يغيّر وجه الكون! وكذلك يرى الطفل أمّه، وأخاه الأكبر، ومعلّمه ولاسيما في المراحل الأوليّة من التعليم، حيث يعدّ الأخير عالمًا بكلّ خبايا الكون وأحواله، وفي شتى علومه، متقنًا لجميع المهارات الحياتيّة. إنَّ هذا الشعورَ المتولّد عن تلك العين الأسطوريّة، في مرحلة الطفولة يبقى حالة طبيعية متقبّلة؛ إذ إنّ هذه العين سرعان ما تضمحلُّ ويبطُلُ عملها مع تقدّم صاحبها في العمر، وزيادة وعيه، وتراكم خبراته، واتّساع محيطه الاجتماعيّ؛ لتفسحَ المجالَ أمام الاعتدال، ووضع الأمور في نصابها وقدرها الطبيعيّ، فبعد أن يبلغ المرء رشده متجاوزًا طفولته يدركُ أنّ أباهُ ذو قدراتٍ بشريّةٍ محدودةٍ، وأنّ معلمهُ لم يؤتَ من العلم إلّا قليلًا. تبرز إشكاليّة «العين الأسطوريّة» وخطورتها حين يستمرُّ عملها الأسطوريّ، في إصدار الأحكام والتصنيفات، مع التقدّمِ بالعمرِ الذي لم يصاحبهُ ارتقاءٌ في الوعي يُبطِلُ عملها؛ لتغدو تلك العين مصدرَ تشويشٍ على صاحبها، وتضليلٍ على رؤيتهِ، وتزييف لواقعه؛ متحوّلةً إلى حالة مرضيّة. كالزائدة الدوديّة -إذا اُستُعير من المعجم الطبيّ- التي إن بقيت في الجسد من دون التهاب أو علّة، فلا خطر من بقائها، أمّا إن أصابتها علّة، فلا بدّ من استئصالها، وإلّا تدهورت صحة المريض. وهو ما ينطبق على عمل العين الأسطوريّة حين تبقى مع صاحبها بعد أن تجاوز مرحلةَ الطفولة، ولم يُبطل الوعي عملَها. ففي الحالة الأخيرة، يرى المرء ما حوله، ونفسهِ خلاف الحقيقيّ، فيضخّم المواقف والحالات، وقد يتحوّل في نفسه إلى متكبّرٍ متعظّم يرى في نفسه ما لا يراهُ غيره، ويجد في عرقه امتيازًا عن كلّ الأعراق، وفي قومهِ، أو أهل منطقتهِ صفوة الأنامِ، وفي لونهِ آية الجمال، وفي جنسه التفوّق المطلق؛ لتتوالد آفات اجتماعيّة، وتعصّبات ذهنيّة تعصف بالمجتمع والإنسانيّة. من هنا، تأتي أهميّة الوعي الفردي، والتربوي والتوجيه الإعلامي في إبطال عمل العين الأسطوريّة أو ما يشابه عملها الذي يشوّه صاحبه ويضرّ مجتمعه، وضرورة التدخل العلاجيّ النفسيّ والتربويّ والقانويّ لمن لم يتجاوز عملها ويبقى حبيسًا له؛ للوصول إلى مجتمع صحيّ معافى من الأمراض النفسيّة والآفات المجتمعيّة.