كانت مباراة طبيعية، الأزرق متقدم ورتمه لا يُجارى، الزعيم باسط نفوذه على أرجاء الملعب متحكم في سير اللقاء، ممسك بزمام المواجهة الملتهبة وصلابته لا تُبارى، النصر مستسلم مذعن وجسده مصفر مُسجّى، الأقلام تكاد تُرفع الصحف توشك أن تجف وتُطوى، تمر دقائق المباراة مر السحاب الهلال يمضي قدماً ويسعى للتويج بالبطولة الأغلى دون أن يشقى، هكذا تتجه مجريات اللقاء ولكن هناك من أبنائه من يأبى وأراد أن يغير المجرى... بحلول الدقيقة 85:00 أصاب عروق عقارب الساعة التجمد فتوقف قلبها عن النبض للحظات وتسمرت عند هذا التوقيت لا تبرحه عندما صوب ميتروفيتش كرته نحو زاوية المرمى الأصفر والذي بدوره انزاح عن موضعه بمقدار 70 سم فقط لتتهادى الكرة بغرابة بجانبه رافضاً هدفاً محققاً، صرخ المرمى قائلاً: مهلاً يا هلال ما هذا الاستعجال؟ محال أن أقبل باستقبال مزيداً من «الأجوال» ولن أرضى بهكذا سيناريو يُِعلن من خلاله لستائر هذا الكرنفال بالانسدال فهي ليست مباراة محلية تقليدية إنما هي بطابع إنترناشونال... العقارب تعود عادت العقارب للدوران، الدقيقة 86:30 يشهر الحكم المشحون والمستفز البطاقة الحمراء في وجه قلب الدفاع «الأول» علي البليهي الذي طأطأ راسه متصلباً في مكانه لا يبدي حراكاً وقد اعترى قسمات وجهه الوجوم من فداحة فعلته وجسامة حماقته، نيفيش يصرخ في وجهه: لماذا لم تتحاشَ الاستفزاز وعنه تتغاضى... لماذا؟ ميتروفيتش يأخذ بتلابيبه ويدفع به ولسان حاله يقول: لقد حذرناه ولكنه تمادى؟! المشجع يتحسر ممسكا برأسه ويهمس لنفسه: ويكأن ما يقال عنك أيها المتهور لم يكن حديثاً يُفترى! يغادر الملعب يجر أذيال الخيبة وقد انفجرت «البالونة» التي نفخها الجمهور في وجهه من غير ضرم ويبدو أنهم استسمنوا ذا ورم. بعدها بدقيقة تحديداً عند 87:30 يقع الهلال في الكمين، ويسجل النصر المجتهد هدف التعديل الثمين في عرين الزعيم الحصين وسط حالة من الشرود الذهني الذي اعتلى الهلاليين في المقابل يجن جنون النصراويين الذين ارتفع لديهم الأدرينالين، فقد أنعشهم البليهي وأعادهم من الموت للمبادين بعد أن زودهم بالوقود «الأحمر» ومدهم بالاكسجين... مهلاً مهلاً ما زال للحماقة بقية، الدقيقة 90:00 والمباراة تلفظ أنفاسها الأخيرة متجهة للأشواط الإضافية، الغيرة تفترس قلب الدفاع الآخر كوليبالي على زميله المطرود وتأخذه الحمية، فذهبت به شر مذهب وفاضت قريحته الشعرية: أنا خويك بالليالي المعاسير ولا «الليلة حسان» يسد بمكاني خذها وأنا خاليدو جملة قالها وقدمه تركل حارس النصر بكل بلادة وعنجهية، في كرة ميتة أرضية، ليلحقه الحكم بزميله ويغادر آسف المنظر كاسف اللون لا يطيق المزاحَ مانحاً النصر الأفضلية العددية... خمس دقائق فقط حملت بين طياتها هدفاً أصفر وبطاقتين حمراوين شوهتا الأزرق يا لهذا الجنون ويا لهذا السيناريو العجيب والأحداث الدراماتيكية، انقلبت فيها موازين القوى من فوز هلالي سهل إلى أفضلية نصراوية، وحالة استنفار قصوى خيالية، الذهول أصاب الجميع صمت مطبق في الهلال صخب ودوي في النصر تبدأ الأشواط الإضافية، الهلال يلعب بتسعة الأعصاب مشدودة الإثارة بلغت ذروتها شابت الوجوه الحمرة وبعضاً من سوادٍ أحوى، حكموا على الهلال استباقاً أنه هوى، وخر صريعاً وثوى، حتماً أنه ركن دفاعاته في مناطقه الخلفية وانزوى، وتراجع القهقرى، وسيأخذ النصر الهلال كمحتوى، ما هي إلا دقائق قليلة انقضت حتى تبين العكس وبدا أن الهلال هو الأهدأ والأقوى، حاول النصر اختراق الأسوار الهلالية الشاهقة دون طائل وبلا جدوى، تمضي الدقائق دقيقة إثر دقيقة وبعد كل دقيقة يتعافى الهلال ومن جراحه يتداوى، هو معتاد على هكذا سيناريوهات يستهويه حمل الأثقال ويتلذذ بمكابدة الأهوال و إياها يهوى، انتهى اللقاء بهدف في كل مرمى هذا مضمون الأشواط الإضافية والفحوى... حان وقت ركلات الترجيح، هي ركلات الموهبة والهدوء و»التركيز» وعدم الانفعال، الحظ بريء منها براءة الهلال من الدلال، كل مدرب انتقى صفوة لاعبيه ووضع ترتيبهم وكأنه يضع نظرية الأرتال، نجما اللقاء الروبن نيفيش وتيليس أضاعا أول ركلتين أوهن قدميهما ثقل المناسبة وتلبسهما الاستعجال، يتتالى تسجيل الركلات تباعاً والأهداف في كلا المرميين تنهال، الركلة الزرقاء رقم 6 ينبري لها صاحب القميص رقم 66 سعود عبدالحميد يصدها وليد تنخلع قلوب الهلاليين خوفاً وتتراقص أفئدة النصراويين فرحاً اقترب الحلم انقضت سنوات العجاف تحققت الآمال، وانتهى الوقوف على الأطلال، لا يفصل بين النصر و»النصر» سوى تسجيل الركلة الحاسمة الحسن يتأهب للتسديد الدون يسجد وهو ينتحب غريب يتوثب الجمهور يترقب العيون شاخصة الأعناق مشرأبه والجميع انتابهم الانفعال، يتقدم الحسن رويداً رويداً خطوة خطوة ومع كل خطوة تسمع شهقة وزفرة ونبضات الأفئدة يضعها في أقصى الزاوية اليسرى يقفز لها بونو كما لم يقفز من قبل يطير كما لو كانت آخر مباراة في مشواره يقف لها بالمرصاد ويتصدى لها بكل براعة واستبسال، طار واستطال حد الإذهال، لم يتصدى لها بيده بل بقلبه ووجدانه وقواه الباطنية وكل جوارحه محيياً الآمال الزرقاء وحاكماً على نظيرتها الصفراء بالاغتيال. أمام هذا الحشد الجماهيري المرعب وحجم المناسبة وضراوة المنافسة لا تجد من يتحكم بأعصابه ويضبط ثباته الانفعالي ويحافظ على حضور ذهنه فلا ينقطع عنه الإرسال، موقف يتضعضع أمامه أي حارس في العالم ويرتبك ويخضع له أي حامي عرين وينهار لكنه بونو العملاق بونو الأسد بونو «الأدميرال»، في حين أن الهلاليين تنفسوا الصعداء وانفرجت أساريرهم نهض هو بكل هدوء وأناقة كما لو كان يعقد رباط عنقه.. يسجل ناصر الهلال، يتقدم النمر الصغير «عمراً» والكبير «قلباً» للركلة الأخيرة بكل شجاعة بعدما توارى أصحاب الخبرات فزعاً وهلعاً يقابله بونو بكل ثقة وتؤدة وهذه المرة كما لو كان يحلق ذقنه استعداداً للفوز والاحتفال، يتصدى للكرة مرة أخرى معلناً الهلال بطل الأبطال، الهلاليون يتسابقون الخطى لمعانقة حامي عرينهم ليزفونه بطلاً وسيداً لهذا الكرنفال، على الطرف الآخر هناك في منتصف الملعب أجهش الدون يبكي بكاء طفلٍ فارق أمه وما حيلة المحزون غير البكاء وكأنما في قلبه نار الخليل وكأنما في وجنتيه أدمع الخنساء يندب حظه المنكود في لحظةٍ كَرِه فيها كُرَة القدم ونوى حينها الاعتزال، مشهد شاع من قلب الجوهرة المشعة وذاع في أنحاء العالم وملأ الأسماع ليضرب سواحل ماديرا البرتغال، موقف لا أعتقد أن الدون مر به طيلة مشواره حينها أيقنت أنه لم يصادف كابوساً أذاقه الويلات وجرعه الحسرات كما فعل ميسي..بونو.. والهلال..! ما بين فدائية بونو وقبضته ما بين دموع نيفيش وصرخته ما بين استبدال البريك وحصافته ما بين شجاعة تمبكتي وبسالته ما بين مجهود سعود وحيويته ما بين اجتهاد ياسر وعلو همته ما بين هدوء كنو وتعقله ما بين مهارة سالم وخبرته ما بين إصابة مالكوم وتضحيته ما بين أناقة سلمان وقيادته ما بين موهبة ناصر وثقته ما بين مثابرة الحمدان وركلته ما بين رأسية مترو وفرحته ما بين تكتيك جيسوس وقيادته ما بين رزانة ابن نافل وهيبته فصول رواية أبطالها «ثمانية بواسل وأدميرال» تُقرأ للأطفال والأشبال والرجال وتعاقب الأجيال... وتفاصيل ملحمة تُروى لتُضرب بها الأمثال... وجزئيات موقعة تُحكى لكيفية صناعة الأبطال... واستراتيجية إخماد «ضجيج» أتون معركة بتدفق الأوشال... هذا الهلال لا حيلة تنفع معه ولا خديعة لا يأبه بتشكيك وتأليب ولا تهزه بيانات مكبوت، لا يزعزعه إغفال ضربة جزاء وحجب هدف ولا تهزه ألوان الكروت، يَلحق ولا يُلحق يسجل أولاً ويكون مطروداً مُلاحَقاً فيسبق ويفوت، يتأخر بالنتيجة ويصبح طارداً مُلاحِقاً فيلحق ولا ييأس ولا يموت، يخرج من هم المضيق وغم التضييق إلى أوسع الطريق لبنتزع الهتافات ولهيب التصفيق حتى أرغم مناوئيه قبل مناصريه على الإقرار بتفوقه وانتزاع الاعتراف بسطوته فأُطلق عليه ما ولذ وطاب من الصفات والنعوت، هلال ليس في قاموسه الذبول والضمور ولا يعرف الأفول والتواري والخفوت، خيلاء طغيان كبرياء غطرسه إباء تيه قل عنه ما شئت جميعها تليق به وتصف المشهد بصدق وإن أردت الاختصار... ما فعله الهلال هذا الموسم يمثل حرفياً معنى السطوة والجبروت...!