لما تجلى النور في السماء، وجنى الليل ودنّا؛ ورأيت نجمًا يطوف في العُلا، واستشعرت أحداقكَ بهول الأحداث، حينها تتزاحم الأفكار بعقلك الصغير وتتهافت الأنفاس في شرايين قلبك الضعيف؛ تدرك في تأملك أبعاد الجرم الكبير. فثبت فؤادك وفكر في تأمل الأشياء وتكوين ذاتها وتطويرها وانتقالها من لحظةٍ إلى لحظة ومن صورةٍ إلى صورة ومن هيئةٍ إلى هيئة حتى تضمحل. فهذه الشمائل التي انطوت في عقلك الصغير؛ العظيم في التفكير ما هي إلا وشائج تجانست لهول الأحداث التي بدت فيها الكلمة العظمى؛ لِتسير شواطئ الموجودات نحو مبدأ واحد لا ضلال فيه ولا تضليل (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة:164) هو ذو العقل وحده يدرك هذه المدركات وهذه الاختلافات المؤدية إلى ينبوع واحد نحو السمو والتفكير إلى هذه الأحداث التي تجري في طبيعتنا وأذهاننا وفي محيطنا الاجتماعي، إن هي إلا دروس للحياة الإنسانية، أن نسير على نهج قويم دون اعوجاج نتبع حكمة مفيدة كي يحكم العقل إرادته وينأى عن الفساد والزلل. فصورة العقل الآخر هي ظواهر الطبيعة ذاتها وهي مرآته التي تساعده على تقويم الأشياء بلا كلل أو ملل؛ لأنها مسخرة كجريان المياه في النهر؛ فهي على حركة دائمة؛ إذ لا تعود إلى جريانها القديم فكل شيءٍ يتجدد. سوى ذلك العالم القديم في القدم المتقدم عن عالمنا المتغير، الذي لا تدركه الأبصار وإنما تدركه العقول التي في الصدور. إنها أمور فيضية فاضت عن عالم المُثل في لحظة ارتقاء ولحظة اندهاش حين تبدأ الكلمة لتكون كل شيء في الوجود، فهذا هو المُثل المكتمل في فكرة اتحاد العقل مع مثلهِ الأعظم. لا جَرمَ أن الجزء أحيانًا يكون أجدر من الكُل فهو المبتدأ وهو المنتهى به تتكون الأشياء وبه تتغير الأحوال وتتبدل من حالة لازمة إلى حالة مفارقة، ولكَ أن تقيس في حال الأعداد الرياضية من تغيير الكم إلى تغيير معنى اللفظ في المنطوق؛ وكذلك في الكتابة، أو الأعراض التي طرأت على غليان الماء بسبب درجة واحدة أكملت المشهد. وعندما نتخذ الفكرة في مستهل أقوالنا ونبلورها إلى حد التعاظم؛ لن نكون في موضعٍ واحد، وإنما نتناسق في صورةٍ واحدة؛ كما هو حال الفنان التشكيلي في أول خطوة يخطوها بريشته حتى ينتهي إلى لوحة مكتملة المنظر.