أسرة الزاحم من بلدة القصب أسرة علمية، أنجبت عددا من ذوي العلم والمعرفة، بل وتولوا القضاء وكانوا من أعلام القضاء في هذه الوطن، وقد كتبت عن أحد مشاهير هذه الأسرة وهو أول من تولى القضاء منهم، وهو الشيخ القاضي عبدالله بن عبدالوهاب بن زاحم - رئيس محاكم المدينةالمنورة سابقاً -، هذه الشخصية كان لها حضور علمي وقضائي، وقد شارك مع الملك المؤسس - رحمه الله - في توحيد أرجاء المملكة، وشخصيتنا لهذا الأسبوع هو من تلاميذ الشيخ عبدالله بن زاحم، أفاد منه إبان طلب العلم، هو القاضي عبدالعزيز بن محمد بن إبراهيم بن زاحم - رحمه الله -، الذي كان من المجتهدين والحريصين على تلقى المعلومة من مصادرها المكتوبة والتلقي والسماع والنهل من مجالس الذكر والعلم وحلقات الدرس في الرياض، ثم بعد الانضمام إلى المؤسسات التعليمية التي أُنشئت للتعليم النظامي كالمعهد العلمي وكلية الشريعة وكلية اللغة العربية، لهذا كان يبادر لكل نداء يروي عطشه العلمي والمعرفي ويشبع نهمه، مع أن طالب العلم الحقيقي لا يشبع من التزود من العلم حتى آخر لحظة من حياته، وقصة العالم البيروني مشهورة في ذلك حينما كان يحتضر وهو في سكرات الموت وبلغت الروح الحلقوم أخذ يسأل عن الجدات الفاسدات، وهي مسألة معروفة في علم الفرائض، فقيل له: «أفي هذه الحال الشديدة تسأل؟»، قال: «نعم؛ لأن أخرج من الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة خير لي من أخرج وأنا جاهل بها»، وقيل لعالم كان يكتب كل فائدة يسمعها: «ألم تتوقف عن الكتابة؟»، فأجاب: «لن أتوقف، لعل الكلمة التي تنفعني لم أكتبها بعد»، أو كما قال. وعبدالعزيز بن زاحم من طلاب العلم منذ أن شب عن الطوق، فهو في عالم المعارف يحلق فيه حتى دنت منيته، وفي هذه السطور أكتب ما زوّدني به الأخوان الكريمان محمد بن عبدالعزيز بن زاحم «نجله»، والباحث ناصر الزاحم الذي كان متواصلاً معي منذ أشهر على أساس الكتابة عنه، وهذا من خلقه الكريم وبذله للمعلومة. ذاكرة قوية وعبدالعزيز بن زاحم -رحمه الله-، من مواليد 1345ه ببلدة القصب، والتي تعد من إقليم الوشم، تعلم في الكتاتيب القرآن الكريم على معلم اسمه إبراهيم بن فنتوخ، وكان من سعادته وتوفيق الله عز وجل قبل ذلك وعنايته به أن أتم حفظ القرآن وأتقنه قبل فقدان بصره حسب الطريقة النجدية، وهي إتقان القراءة بدون لحن مجرد من أحكام التجويد، إذ إن علم التجويد لم يدرس إلاّ في المدارس النظامية الحكومية، وحينما وفد إلينا القراء والمعلمون المصريون وبدأت حلقات القرآن الكريم في المساجد وأصبح علم التجويد وعلم القراءات يدرّس في هذه الجمعيات الخيرية، وكذلك خصصت أقسام لعلوم القرآن بكلية أصول الدين في الجامعات مثل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وفي الجامعة الإسلامية، صار علم التجويد والقراءات علماً أساسياً يعتني به ويدرّس، وبعد أن أتم ابن زاحم حفظ القرآن فقد بصره، لكن الله منَّ عليه بذاكرة قوية بطيئة النسيان، وسوف تنفعه هذه الذاكرة في التحصيل العلمي والعملي، والآن أساس العلم الحفظ، فالقرآن الكريم والسنة النبوية والعلوم الأخرى لم تصل إلينا إلاّ عن الحفظ والرواية، ومن المعلمين الذين تلقى عنهم القرآن الكريم المقرئ المعلم عبدالعزيز بن محارب، وذكر هذا مؤلف كتاب (تاريخ القضاء والقضاة في المعهد السعودي) الباحث عبدالله الزهراني في ترجمته لعبدالعزيز بن زاحم. دروس وعلماء وكما قلت في الأعداد الماضية عن بعض الشخصيات العلمية، أن معظمها رحل إلى الرياض، خاصةً الذين هم من المنطقة الوسطى؛ لأنها كانت حافلة بالدرس والعلماء، وهي عاصمة الحكم، وقد هيأ لطلبة العلم قوتاً موسمياً ومبالغ نقدية من الملك عبدالعزيز -رحمه الله-، وكان هناك سكن لطلبة العلم بجوار مسجد الشيخ عبدالله بن عبداللطيف بحي دخنة، فطالب العلم إذا كفي قوته وهو الضروري، وكان له سكن، تفرّغ لطلب العلم تفرغاً كاملاً، وصار الوقت كله للعلم وحلقات الدرس، فما كان من عبدالعزيز بن زاحم -رحمه الله- إلاّ أن رحل إلى الرياض 1363ه وانضم إلى حلقات المشايخ، وسكن بيت طلاب العلم، فكان من مشايخه وأساتذته الذين استقى منهم العلم والمعارف الشيخ المفتي محمد بن إبراهيم، درس عليه التوحيد والعقيدة وزاد المستنقع الذي قيل فيه من حفظ الزاد قضى بين العباد، وليس المقصود الحفظ فقط، ولكن الحفظ مع الفهم والاستيعاب لمسائل الزاد المتعلقة بالمعاملات والفرائض ومسائل القضاء، وكذلك القصاص والديات، وما يتعلق به إلى آخر أبواب الزاد التي لها علاقة بالقضاء، فكان زاد المستقنع للعلامة الحجاوي ركن في التدريس في المدرسة النجدية، وفيما بعد في المعاهد العلمية، كذلك من أساتذته عبدالله بن عبدالوهاب بن زاحم، وكان بمثابة مقام والده، ودرس عليه مقدمة النحو الأجرومية عن ظهر قلب، إضافةً إلى عبد الرحمن الأفريقي المدرس سابقاً بالمسجد النبوي ثم بالمعهد العلمي بالرياض وكلية الشريعة، كان من علماء الحديث درس عليه عمدة الأحكام والمصطلح، إلى جانب العلامة الموسوعي محمد الأمين الشنقيطي مؤلف موسوعة أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن أخذ عنه في أصول الفقه والتفسير وأصوله، وعبد اللطيف بن إبراهيم درس عليه في الفرائض، والشيخ العالم الأثري المفتي عبدالعزيز بن باز أخذ عنه كتاب التوحيد. تفوق علمي وبعد حلقات العلم وحينما افتتح المعهد العلمي بالرياض دفع الشغف بالعلم عبدالعزيز بن زاحم -رحمه الله- إلى الالتحاق بهذا المعهد الذي تأسس عام 1371ه، تخرج منه، ثم قبل في كلية الشريعة طالباً منتظماً وتخرج عام 1378ه، وهي الدفعة الثالثة، وكان من الأوائل، ولتفوقه العلمي والدراسي عُيّن أستاذاً بالمعهد، ثم بكلية الشريعة، ودرس على يده في المعهد والكلية الكثير من التلاميذ، وأصبح زميلاً لمشايخه الذين درسوه في الكلية والمعهد مثل الشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ عبدالعزيز الرشيد والشيخ عبدالرزاق عفيفي وغيرهم. وكان لابن زاحم خبرة في مجال القضاء، إذا إن رئيس القضاة كان يندبه أثناء دراسته في الكلية وكان طالباً ليحل محل القضاة في مدة معينة، لهذا نال التجربة العملية، وفي عام 1385ه عيّنه رئيس القضاة قاضي في محكمة الرياض، وكانت العاصمة في محكمتها الكبرى أو العامة لا يوجد بها إلاّ ثلاثة قضاة، وأصبح شخصيتنا رابعهم وترقى إلى أن وصل إلى قاضي تمييز. منصب حسّاس وتحدث الباحث محمد بن عبدالعزيز بن زاحم عن والده عبدالعزيز بن زاحم -رحمه الله- حينما كان قاضياً قائلاً: وهبه الله تعالى قدره على التمييز بين الخصوم من طبقات أصواتهم، فضلاً عن ذلك إلمامه بالقواعد والتعاميم الإدارية، وعلمة العميق بالأحكام الشرعية، وكانت أقضيته نهائية لا لبس فيها، ثم أضاف: وكان لا يجامل في القضاء، حيث أذكر أنني فتحت الباب لصديق نعرفه تمام المعرفة فلما أخبرته بأن صديقه عند الباب ويستأذن الدخول خرج عليه عند الباب واعتذر عن ضيافته، وذلك لوجود قضية للمذكور منظورة -انتهي كلامه-، وهذا من الورع الذي يجعل القاضي لا يحابي أحداً حتى ولو كان الخصم من الأصدقاء، حرصاً على سلامة مجرى القضية المنظورة، فالصداقة باقية لكن خارج دائرة القضاء، وهناك نخبة تفرق بين القضاء وبين أي علاقة كانت، فالقضاء منصب خطير وحساس. إمام وخطيب وتولى عبدالعزيز بن زاحم -رحمه الله- إمامة عدة مساجد في الرياض، فقد تعيّن إماماً لمسجد القري، وكان هذا المسجد قد أقام فيه شخصيتنا دروساً في التوحيد والفقه، وهو المسجد الذي يقع شمال مسجد مصلى العيد وحوله مواقف السيارات وشرقاً كلية الشريعة سابقاً التي كان موقعها شارع الملك فيصل -الوزير-، وكان شخصيتنا خطيباً بمسجد الحسي مدة ثلاثة أعوام، والجدير بالذكر أن طامي صاحب أول إذاعة في الرياض استأذن ابن زاحم في نقل خطبة الجمعة عام 1381ه، فأذن له، فكانت أول خطبة تذاع في مدينة الرياض، وطامي هذا كانت إذاعته على شارع الملك فيصل في سطح إحدى البنايات، أقصد مقر الإرسال بالقرب من المسجد، واستمر ينقل الخطبة طوال ثلاثة أعوام كما ذكر الباحث ناصر الزاحم في نبذته عن شخصيتنا. يجري في دمه وانشغل عبدالعزيز بن زاحم -رحمه الله- بالقضاء، إلاّ أن العلم كان يجري في دمه، حيث فتح منزله في كل الأحياء التي سكن فيها بمدينة الرياض لطلبة العلم من بعد صلاة العصر حتى أذان العشاء طيلة العام، درس كتباً كثيرة، وكان لا يمل ولا يكل من التدريس والإفادة والنقاش العلمي المستمر، فكان منزله منارة علم، بل كان منزله مدرسة، وكان يعتني بكتب الحديث خاصةً، وأما درايته بالفقه فهي جيدة، فقد تشرب الفقه الحنبلي، بل إن لديه معرفة ببقية المذاهب الفقهية الأخرى، وفي الجملة كان طالب علم كبير، لكنه لم يشتهر بين العامة؛ لأنه لا يحب الظهور والأضواء، ولم يتعامل مع الإعلام المرئي والمسموع، فهاتان الوسيلتان هما النافذة ليعرفه الناس، ولكن شخصيتنا اقتصر على نشر علمه ودروسه في منزله منذ أن بدأ بالتدريس في كلية الشريعة وفي المعهد العلمي والمساجد التي كان إماماً فيها، كان شغله الشاغل التدريس ونشر العلم، خاصةً بعد أن تقاعد عن العمل القضائي عام 1415ه. كرم وعطاء ومن صفات عبدالعزيز بن زاحم -رحمه الله- عنايته بالفقراء والمساكين، حيث كان يبتسم في وجوههم، ويلين معهم الكلام، ويساعدهم بالقدر المستطاع من ماله، ويشفع لهم بجاه عند المسؤولين، فكان ذا مروءة وكرم وعطاء وإحسان لجميع الفقراء الذين يتواصلون معه. وكما قلت إن ابن زاحم منحه الله ذاكرة قوية، وحافظة لا تنسى كل ما تسمع، فكان لا ينسى كتاباً قرأه أو اطلع عليه، وكان لديه مكتبة زاخرة بالمؤلفات، ويعرف مكان الكتب في مكتبته، وكان إذا وضع ورقة في كتاب لتحديد الموضوع يقول لأحدهم: «افتح الكتاب الفلاني في الصفحة الفلانية»، فإذا فتحاها وجد الورقة الموضوع فيها، وليس كتاباً واحداً بل كثيراً، حيث كان يعتمد على ذاكرته الحديدية في إتقان علمه وحفظه وفهمه. يقول ابنه محمد في نبذته عن والده: يقول من سلّم علي مرة وعرفني بنفسه أو جاني في قضية أو زارني في مجلس فلا يمكن أن أنساه أبداً، ليس هذا فحسب، بل كان يعرف الناس هؤلاء من أصواتهم، فلا يقول من فلان مطلقاً؟ -انتهى كلامه-. بعيد النظر ومن صفات عبدالعزيز بن زاحم -رحمه الله- أنه بعيد النظر، حصيف في آرائه، دبلوماسي في إجاباته، صاحب سجايا كريمة وأخلاق عالية وابتسامة هادئة، كثير الاستماع، قليل الكلام، هادئ الطبع، شديد الذكاء، كثير الخبرة نتيجة كثرة مخالطته للناس بسبب عمله في القضاء، لا يجامل في شرع الله، ولا يخاف في قول الحق لومة لائم، لا يداهن أبداً مهما ارتفع مقام الشخص أو منصبه في الحكم الشرعي، كان كثير الخوف من الله، هكذا قال ابنه محمد. وبعد حياة مليئة بالعلم والتعليم والقضاء والإفتاء والتدريس توفي عبدالعزيز بن زاحم في ليلة السابع والعشرين من رمضان عام 1421ه، رحمه الله وغفر له وأسكنه الفردوس الأعلى، وفي الختام أشكر الباحث ناصر الزاحم على تزويدي بالمعلومات، وكذلك الشكر موصول لمحمد بن عبدالعزيز بن زاحم على إعطائي معلومات عن والده وفقهما الله عز وجل. خطاب من الشيخ عبدالعزيز بن باز إلى الشيخ عبدالعزيز بن زاحم منزل ابن زاحم في العليا جنوب شارع موسى بن نصير كان ابن زاحم إماماً في مسجد القري - الصورة من كتاب (المساجد والأوقاف في الرياض) للدكتور راشد العساكر- المسجد الذي كان يُصلي فيه عبدالعزيز بن زاحم رحمه الله إعداد- صلاح الزامل