جبلت هذه الحياة الدنيا بالمنغصات، وحكم على أهلها بالفراق، فكلٌ مودِع أو مودَّع، مهما طال الزمن، واجتمع الشمل فإن الفراق محتوم، رغما عن كل متحابين، وبلا رغبة من أي الخليلين، وكم في الحياة من قصص الفراق حتى مع العيش بنأي الديار، وتقطع البين، والبحث عن لقمة العيش، وكم من متذكر خليله، ومشتاق إلى صديقه. ولولا أن من الله على الناس بالسلوان لما أمكن أن يعيش سعيدا أي إنسان، فالحياة تفرق أكثر مما تجمع. كنت في جلسة أريحية مع بعض الأحباب، ففاجأتني صورة أرسلت إلي فنغصت علي انبساطي، وخطفت البسمة من فمي، وأعادتني إلى الماضي القريب البعيد. إنها صورة أمي، أمي التي ماتت منذ سنوات، فتفتق جرح كنت أظنه اندمل، ورجعت طفلا صغيرا لم يبلغ الحلم بعد، وعاد في ذهني شريط الحياة ونشطت الذكريات، عدت كما كنت لعقود أحن إلى صدرها، أتوق إلى حنانها، أشتاق لصوتها، تذكرت ملامحها جيدا، ورن صوتها في أذني، لقد كانت نبع الحنان، وحصن الأمان، ورمز العطف، وعنوان الشفقة، وفي صدرها مهبط الرحمة، فعليه تحط، ومنه تقلع ُ. أنا الرجل، الأب، والجد، "واشتعل الرأس شيبا" ووالله ما زلت أحتاج إلى ذلك الصدر الحنون أشكو إليه همومي، وأبثه أحزاني، وأشاركه أفراحي. كم أحتاج صدرا كصدرها، وقلبا كقلبها، يكتم سري، لا يشمت في مصيبتي، ولا يفرح لكربي، ولا يحسدني لنعمة نلتها، ولا يسابقني لفضل حصلت عليه، ويتمنى لي الخير حيثما كنت. آهٍ لهذه الدنيا، تحرمنا ممن نحب، تفرقنا وتباعد بيننا، وتوهمنا أنا نسينا، والحقيقة أنا سلونا، لكن ما نسينا!. وبعض الأحبة يأبى وهو ميت أن يموت!، فيبقى حيا في القلب مهما طال الزمن، يتفتق جرح فراقه، وتشتعل حرقته كجرح جديد عصر عليه حمض أو شيئ من ملح فكوت لسعته القلب كيّا لا يحتمله أقوى الرجال بأسا، وأشدهم صبرا. أمي ككل أم في عين كل ابن، هي أعظم الأمهات، وتبقى عنوانا للحب والتضحية والبذل والعطاء، شمعة تضيء حياة الأبناء، وحبلا يصل بينهم، وسقفا يحميهم، وجدارا يقيهم، وجدولا من ماء الحياة يسري في عروقهم، مختلطا بدمائهم، منشطا لقواهم. الأم هي القلب النابض، هي رئة الزفير والشهيق، هي العين التي ترقب حركات الأبناء حتى وهي مغمضة، فعين إحساسها في قلبها لا تغمض. مهما حاولت أن تخفي عنها حزنك أو فرحك أو همك، ستفاجأ بها عبر قرن الاستشعار في قلبها قد أحست بإحساسك، ففرحت معك، أو اهتمت لهمك. مذ كنت طفلا تلتحف صدرها، وتسمع دقات قلبها فتشعر بالأمان، وبدفء الحب وسحر الحنان، وهي ترقب حركاتك، وتنظر إلى مستقبلك، وتدعو لك في كل لحظة، حتى وأنت شيخ كبير، ورجل قد عركتك الحياة، وأصبحت قائدا مغوارا، أو تاجرا حاذقا، أو مسؤولا محنكا، فإنك تصغر أمامها، وتذل بين قدميها، وتحس بغمرة الاطمئنان حين تودع بكلمات عطرة من فمها يدعو لك، فلا تحس بأي تملق في ذلك الدعاء، هو الدعاء الوحيد الذي لا يرجو مصلحة، ولا ينتظر ردا، ولا يخلو من رجاء منك أنه سيستجاب. كل هذا الكلام لخصته كلمتان قصيرتان من فم الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: الزم رجليها فثم الجنة. كنت أظنها جنة الخلد فحسب، لكني مع صورة أمي علمت كم كنت مخطئا، فقد كانت جنة الدنيا أيضا تحت رجليها. عجز الأولاد والأحفاد أن يطمسوا رسمها في القلب، أو يدفنوا ذكراها، أو يعوضوا وجودها. ولا أملك اليوم إلا أن أدعو لها، ولوالدي بوصية الله فأقول "رب ارحمهما كما ربياني صغيرا". هذا، والله من وراء القصد.