رست سفينة «إمباير ويندرش» على مرسى تيلبري في إنجلترا بعد إنهاء مهمتها في جامايكا في شهر يونيو عام 1948م، وجلبت نحو 500 من سكان جامايكا الأصليين إلى بريطانيا. وأسفر قانون الجنسية البريطانية في وقت سابق من ذلك العام على منح دخول مجاني إلى بريطانيا لجميع مواطني الأراضي المُستعمرة من قبل بريطانيا؛ وذلك لتوفير أيدي عاملة لمشروع إعادة إعمار بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية. وأدى ذلك إلى ارتفاع أعداد المهاجرين إلى بريطانيا، وكان أغلب المهاجرين من دول الكاريبي. ولا شك في أن هؤلاء المهاجرين تعرضوا للتمييز العنصري، حيث كان من الصعب عليهم العثور على وظائف جيدة وسكن مريح. إذن، ما الذي دفع هؤلاء المهاجرين من دول الكاريبي للنزوح لبلد استعماري عنصري يختلف تماماً عن دولهم من حيث البنية الاجتماعية والقيم الثقافية والمناخ؟ أجاب الباحثان ديفيد دابيدين ونانا ويلسون تاجو عن هذا السؤال في كتابهم «دليل القارئ إلى الأدب الغربي والبريطاني الأسود»: «رحلة الهجرة الى إنجلترا هي رحلة إلى الوهم (..) وهم مادي حول ثروة إنجلترا، حيث يفترض المهاجرون أن الشوارع ممهدة بالذهب وأن فرص العمل الجيدة متاحة بوفرة، ووهم حول لباقة وحُسن ضيافة الإنجليز». وتؤكد قصيدة الأديب والشاعر المهاجر الجامايكي جيمس بيري التي تحمل اسم «أن تُسافر على هذا الفُلك» من كتاب «أغاني ويدرش» على إجابة دابيدين واتاجو. ويُحدد بيري دافعه للهجرة في القصيدة بوضوح وهو: دافع اقتصادي، إذ يرى بيري أن المستقبل في جامايكا المنكوبة بالفقر معدوم وأنه لا جدوى من محاولة كسب لقمة العيش من الزراعة. ويُعلن في منتصف القصيدة أنه مستعد لأن يسرق ويكذب وأن يتخلى عن عائلته وأن يبيع والدته ليركب على من سفينة «إمباير ويندرش»! لكنه يؤكد على أن وجهته «بريطانيا» لا تعني له الكثير، حتى أنه لا يذكر اسمها في العمل. ومن الجدير بالذكر أن بيري كتب قصيدة باللغة الإنجليزية ذات اللكنة الجامايكية رافضاً استخدام اللغة الإنجليزية البريطانية، واستخدم لغة بسيطة بعيدة عن التعقيد البلاغي المُرتبط بالشعر الإنجليزي؛ وسبب ذلك هو التأكيد على أن العمل يُمثل تجربة جامايكية فريدة، فعلى الرغم من أن الشاعر تخلى عن موطنه وعائلته إلا أنه لم يزل متمسكاً بجزء بسيط من جذوره. ويجعل استخدام اللهجة الجامايكية هذه القصيدة متعارضةً مع تصنيف الإنجليز لما يُعد أدباً، لكن أُدباء دول الكاريبي المهاجرين كانوا حريصين على وجود «صوت» يُعبّر عن تجربة المهاجرين في بريطانيا وإن اعترض مع تصنيف التقليد الغربي. وكتب جيمس بيري في مقدمة مجموعته «أغاني ويندرش» وصفاً عن الوضع الذي واجهه أهل الكاريبي في أواخر الأربعينات: «لم نكن نرغب في أن ننشأ في فقر ولم نكن نرغب في العيش دون معرفة بالعالم. ولم نكن نرغب في العيش مثل آبائنا الذين كانوا مسجونين هناك مع بضع تلال وحقول الموز وبضعة حيوانات (..) هذه كانت حالة الكاريبي في ذلك الوقت، لقد كانت ثقافتنا تعاني من تاريخها وكنا في حالة من العجز». ويُثبت بيري بكلماته أثر وطأة الاستعمار على هويته واحترامه لثقافته وتاريخه: «على الرغم من العبودية، كنا نحترم إنجلترا ونشعر بالانتماء إليها... كنا نعلم أن إنجلترا تتيح لنا فرص العمل والدراسة في آنٍ واحد. لكننا كنا نعي أن إنجلترا هي وطن أسياد العبيد وثقتنا لم تزل مهزوزة في الرجال البيض ومع ذلك كانت إنجلترا أقرب ما كان لدينا لوطن، لقد رأينا الأمل فيها». ونلاحظ هنا أن بيري يُناقض ادعائه في القصيدة بأن بريطانيا لا تعني له الكثير، ويشير إليها كوطن محترم ينتمي إليه. وعلل الكاتب والصحفي البريطاني سبب انكسار الهوية والانتماء للمُستعمر في كتابه «أجانب ملعونين: قصة الهجرة إلى بريطانيا»، وقال: «تركت سنوات من الدعاية التبشيرية والتعليمية وإنجازات الهندسة المذهلة والقيادة الفذة وعدد البروتوكولات الهائل واستعراض الثروة والقوة بصمتها ورُسمت بريطانيا كوجهة عظيمة وسيادية». تُظهر أعمال الشاعر جيمس بيري، في رأيي، نتيجة تأثير الاستعمار والظروف الاجتماعية والثقافية على الهوية والأصالة الأدبية. إذ إن بيري يعلن في عمله تخليه عن وطنه وأصوله بالكامل، وعلى الرغم من انعدام الهوية الأدبية في العمل، يُمكن الاستفادة منه كنموذج لأثر الاستعمار والهجرة على الهوية الوطنية والأدبية. *كاتبة ومترجمة. غلاف كتاب «أغاني ويندرش»