الأولى أميركية من أصل كوبي والثانية بريطانية من أصل جامايكي، روائيتان جمعتهما قواسم مشتركة كثيرة من دون أن تدريا. ولدت سيسيليا سامارتين عام 1961 في هافانا، كوبا. غير أنها سافرت مع أبويها وهي صغيرة إلى الولاياتالمتحدة وتقيم الآن في سان غابرييل - كاليفورنيا. أما أندريا ليفي فقد ولدت عام 1956 لأبوين جامايكيين هاجرا إلى بريطانيا عام 1948 على متن السفينة «ويندروش» التي حملت أول دفعة من المهاجرين الجامايكيين إلى بريطانيا. حملت الاثنتان تجربتهما الخاصة إلى مصاف ظاهرة عامة قابلة للتأمل والمعاينة وقد فعلتا ذلك عبر الكتابة الروائية التي برعتا فيها. حين كانت سيسيليا مراهقة سافرت مع أسرتها إلى إسبانيا التي كان أجدادها ولدوا فيها قبل أن يأتوا إلى كوبا. هناك تعرفت للمرة الأولى إلى ما يسمى «الحج إلى كومبوستيلا»، حيث يأتي الناس من مختلف الأماكن في العالم ليسيروا أسابيع وأحياناً شهوراً على درب طويل يبدأ من جبال البيرينيه عند الحدود الفرنسية وصولاً إلى مرج أخضر في غاليسيا حيث تقع كاتدرائية سانتياغو دي كومبوستيلا. ويقال إن من يتمكن من بلوغ الكاتدرائية تحل عليه البركة لأنهم يعتقدون أن رفات القديس جيمس مدفونة هناك. لم تستطع سيسيليا، وهي صغيرة، أن تفهم السبب الذي يدعو هؤلاء الناس إلى تحمل عناء ذلك المسير الطويل. بعد عقدين من الزمن على تلك التجربة عادت مرة جديدة إلى إسبانيا. كانت تحررت من شكوك المراهقة وأخذت تنظر إلى الأمور نظرة كاتبة ومحللة نفسية، هي التي تخرجت في كلية الطب النفسي في جامعة سانتا كلارا. حملت صرتها على ظهرها وحملت عصا وسلكت طريق الحج الطويلة. كان ذلك علاجاً مذهلاً لروحها التي كان الصدأ علاها. خلال أسبوعين سارت 150 ميلاً على طريق كامينو ديل سانتياغو (درب سانتياغو)، وحين وصلت أخيراً إلى الكاتدرائية أدركت أنها لم تعد هي بل صارت شخصاً آخر. هذه الرحلة الساحرة هي موضوع روايتها «جمال باهت». غير أنها لم تتوقف عند الرحلة كأثر من آثار الموروث الديني، بل هي رأت فيه سلوكاً عصرياً يمارسه المهاجرون كل يوم، إذ ينتقلون من بلاد إلى آخرى بحثاً عن ظروف أكثر هناء للعيش. إنهم يسلكون طريق الحج إلى سانتياغو الجديدة المنشودة على رغم كل العراقيل. لكل مهاجر «سانتياغوه» الموعودة. كانت سيسيليا عملت مع المهاجرين سنوات طويلة وخلال تلك الفترة انصب كل تفكيرها على ذلك الدافع الخفي الذي يجبر هؤلاء على ترك أوطانهم والرحيل إلى بلاد أخرى قاطعين مسافات طويلة براً أو بحراً مواجهين أصنافاً شتى من المصاعب والتحديات. وأتاح لها عملها كمحللة نفسية أن تتعرف إلى جوانب خفية من السلوك البشري، وأدركت أن ثمة في الفرد طاقات هائلة خفية تنتظر الفرصة كي تنعتق. اندهشت لقوة الناس على تحمل المآسي والتكيف معها بل وتحويلها إلى مصدر للنجاح والتألق والسعادة. هذا هو موضوع روايتها الثانية: «فيجيل». كانت سيسيليا ولدت وعاشت طفولتها في كوبا قبل أن تضطر إلى الرحيل مع عائلتها الأرستقراطية بعد قيام الثورة الاشتراكية الكوبية بقيادة الزعيم اليساري فيديل كاسترو. كانت طفلة صغيرة حين تركت كوبا، ولهذا فهي لا تملك ذكريات كثيرة غير أنها استمعت إلى مئات القصص من المهاجرين الآخرين الذين تركوا كوبا بعد اشتداد ديكتاتورية فيديل كاسترو. هكذا وعلى رغم أنها كبرت وعاشت كأميركية وفي مدينة أميركية، غير أنها ما برحت تحس في أعماقها برائحة جذورها الكوبية. وهي أدركت أن الألوف من الكوبيين الذين تركوا موطنهم يعيشون مثلها في ماض أسطوري يدأب خيالهم على نسجه لحظة إثر لحظة. مثل المهاجرين أصيبت بما يمكن أن يسمى بالتعظيم التخييلي للموطن الأصلي. وهذه هي بالضبط الأعراض شبه المرضية التي تظهر على السحنة الروحية للمهاجرين. نحن أمام حالة غريبة من الانفصام والتمزق: يخوض المهاجرون غمار أصعب المغامرات المميتة للرحيل عن أوطانهم واللجوء إلى وطن آخر، فردوس مفقود، فما إن تطأ أقدامهم أرض البلاد الجديدة ويستقروا فيها حتى يستيقظ في نفوسهم حنين جنوني إلى البلد الذي هربوا منه. تسيطر عليهم نوستالجيا غامضة تشل قدرتهم على التفاعل مع الموطن الجديد. غالباً ما يهتف الواحد للمهاجر الجديد الذي لا يكف عن التذمر من حاله في الموطن الجديد ومن اشتياقه الى موطنه القديم: إذا كان بلدك رائعاً لهذه الدرجة، فلماذا غادرته وجئت إلى هنا؟ المشكلة هي أن الأمر ليس بهذه البساطة. بالنسبة الى المهاجر لم يعد ثمة هنا أو هناك، بل برزخ مميت معلق بين الجهتين. لا يرتاح هنا ولا يرتاح هناك. إذا كان هنا يشتاق إلى هناك، فإذا سافر في زيارة إلى هناك لا يطول به الوقت قبل أن يهاجمه السأم ويحنّ إلى موطنه الجديد. يفقد المرء الشعور بالانتماء ومعه يفقد الإحساس بالراحة. يصير مثل محكوم بالإعدام ينتظر من يأتي ليدق الباب في أي لحظة. العودة إلى كوبا؟ لا ينطوي الأمر على مجرد شوق وحنين بل يتضمن بعداً سياسياً ايضاً. الرجوع يعني تأييداً معنوياً لكاسترو ونظامه الشمولي. ولكن هناك من يجادل بأن الرجوع والتفاعل مع الناس والتحدث إليهم عن الآفاق الممكنة للعيش في عالم آخر غير الديكتاتورية... من شأنها أن تمهد للإسراع في انفضاض الناس عن الديكتاتور والانتفاض للانقضاض عليه. غير أن هناك من يعيش بين بين. هذا هو حال بطلة رواية «الجنة المحطمة». إنها تنظر إلى الأمور من أكثر من زاوية. هي مشغولة بعقد الاتفاقات والتوصل إلى المساومات مع الذات ومع الآخرين وتجنب الوقوف عند النهايات الحادة. رواية «الجنة المحطمة» هي رواية العودة المتخيلة لكوبا كمقدمة للعودة الفعلية المرتقبة. في الطرف الآخر من الكوكب الأرضي كانت أندريا ليفي ولدت في لندن وكبرت فيها لتعي أنها فتاة سمراء في محيط أبيض. هذا ما سيشكل أساس علاقاتها بالمجتمع الذي ولدت فيه وبأبويها وبنفسها. وستترسخ عندها إشكالية الانتماء لدى المهاجرين الذين تركوا أوطانهم والتحقوا بأوطان أخرى فنشأت عندهم، من حيث لا يدرون ولا يريدون، انشغالات الهوية والذات والآخر. وستسعى أندريا لأن تقارب هذه الأشياء من خلال النص الروائي مثلما فعل غيرها من أبناء المهاجرين الذين ولدوا أو كبروا في بريطانيا من عائلات آسيوية أو إفريقية أو أميركية لاتينية: حنيف قريشي وزادي سميث ومونيكا علي وأهداف سويف وفيكرام سيث وسواهم. أرادت أندريا أن تكتب روايات كانت في صغرها تريد أن تجدها في المكتبات كي تقرأها: روايات أبطالها مهاجرون من ذوي البشرة غير البيضاء. روايتها الأخيرة «جزيرة صغيرة» نالت جائزة الكومونولث. وهي الرواية التي تتحدث عن تجربة الهجرة في نص سردي باهر. في رواياتها تحاول أندريا أن تقارب مسألة المهاجرين إلى بريطانيا من زوايا مختلفة. المشكلة الأهم التي تعالجها هي تلك التي تتعلق بأبناء المهاجرين الذين ولدوا وتربوا في بلدان غير البلدان التي ولد فيها أهلهم والعلاقة التي تربط هؤلاء بتلك البلدان التي لا تعني لهم شيئاً في الواقع العملي غير أنها تثقل على وجدانهم ومشاعرهم من خلال الإلحاح الدائم من جانب الأهل. «جزيرة صغيرة» هي الرواية التي تتخذ شرارتها النصية من التجربة الفعلية التي خاضها والدا الكاتبة بالهجرة مع مجموعة من الجامايكيين على متن السفينة «ويندروش» إلى بريطانيا. شكلت الرحلة منعطفاً حاسماً في حياتهما، ومن ثم في حياتها. الهجرة بدّلتهم من حال إلى حال. بدلت عيشهم وأفكارهم وأذواقهم ونفوسهم ومشاعرهم. تحولوا إلى ناس مختلفين بالكامل. غير أن الهجرة لا تغير المهاجرين وحدهم بل هي تغير أرض الهجرة أيضاً. وذلك هو الوجه البارز في الرواية. الناس الذين يأتي المهاجرون للعيش بين ظهرانيهم يتبدلون ولا يبقون على ما كانوا عليه بعدما يتم الاحتكاك بالقادمين الجدد. تروي الكاتبة حكاية عائلتين، عائلة جامايكية وأخرى بريطانية. العائلة الجامايكية تأتي لتسكن مع العائلة البريطانية. عائلة بيضاء وأخرى سمراء. بين سطور الرواية يتقابل القطبان وتتشابك مسائل الانتماء والعرق واللون والطبقة والهوية. على أطراف هذا الاحتكاك تنمو شيئاً فشيئاً براعم الحب والمودة والتناغم جنباً إلى جنب أشواك الكره والتنابذ والتناحر. الاب والأم في العائلة البريطانية مقابل الأب والأم في العائلة الجامايكية. أربعة رواة يتناوبون على سرد حكاياتهم ويتبادلون وجهات النظر في الأشياء التي تربطهم معاً. القدر الذي جمعهم يدفعهم إلى تغيير نفوسهم وذهنياتهم وعوالمهم ونظرتهم إلى الحياة مرة وإلى الأبد. الهجرة سيرورة ديناميكية تفلح في إعادة صوغ طرفي المعادلة في شكل جديد ومبتكر. وهذه عملية مستمرة منذ قرر أول رجل من البلدان الاستعمارية الذهاب إلى بلاد نائية شكلت بقاع المستعمرات. ولكن في السابق كانت البلدان الاستعمارية تذهب إلى مستعمراتها، أما الآن، فإن المستعمرات تأتي إلى بلاد مستعمريها السابقين.