تتميز المملكة بثراء أنظمتها البيئية وتنوعها الأحيائي الفريد في ظل طبيعتها الجغرافية التي تمتد على مساحات كبيرة من تضاريسها المتنوعة. وتشكل منظومة المناطق المحمية التوجه العام للمملكة في حماية المواقع الطبيعية التي عمل المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية على تطويرها من خلال إعداد الخريطة الوطنية للمناطق المحمية 30 x30 التي تم الإعلان عنها عام 2021 بالتزامن مع إطلاق سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان حفظه الله مبادرة السعودية الخضراء التي كان من مرتكزاتها حماية30% من مساحة المملكة البرية والبحرية بحلول عام 2030. تشكل هذه المحميات مناطق تنوع أحيائي وجيولوجي ومناخي خصصت لحفظ الكائنات الفطرية وإعادة توطينها وتنشيط السياحة البيئية، وتحفيز البحوث العلمية، وتعزيز البعد الأخلاقي للتراث الطبيعي. هذه الكنوز الطبيعية شكلت في نهاية العام 2023م ما نسبته 18,1 % من أراضي المملكة، و6,5 % من المياه الإقليمية، ومن المنتظر رفع النسبة في نهاية 2025م وفق خارطة الطريق التي وضعها المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية الى 22% من مساحة الأراضي و 24% من مساحة المياه الإقليمية، ولتصل الى 30% من مساحة المملكة البرية والبحرية عام 2030، وقد وصلت أعدادها الى 36 محمية إلا أن العدد المستهدف لها بحلول عام 2030م يتجاوز ال 100 محمية. وانطلاقاً مما تكتنزه هذه البيئات الطبيعية من ثراء بيئي وثقافي، وحرصاً من المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية على تعزيز الوعي البيئي وتجذير ثقافته، نتوقف معكم في هذه الرحلة الإثرائية للاطلاع عن كثبٍ على التفاصيل البيئية لتلك المحميات ومواطن الجمال فيها وما تشكله من قيمة اقتصادية واجتماعية باعتبارها أحد روافد التنمية المستدامة في ظل الجهود التي يبذلها المركز لحماية النظم البيئية وإثراء التنوع الأحيائي وتحقيق التوازن البيئي المستدام.. عروق بني معارض.. حوار الطبيعة من بين تلك المحميات الفريدة: محمية عروق بني معارض، التي تحتضن أغنى تنوع أحيائي وطبيعي في الربع الخالي، حيث يلتقي أكبر بحر رملي في العالم مع ثاني أطول سلسلة جبلية في الجزيرة العربية لتشكل رغم صعوبة المناخ لوحة طبيعية بانورامية تحاكي مواطن الجمال، وتزدان بثراء التنوع الأحيائي لتقدم بقيمتها العالمية الكبيرة وتشكيلاتها الأرضية ومواطنها الفطرية مثالاً استثنائياً للتطور البيئي والبيولوجي في مجتمعات النباتات والحيوانات الفطرية التي تزهو بغناها وتحتفظ بدهشة الطبيعة، في ظل ما تحتويه المحمية من موائل طبيعية واسعة النطاق، ومناطق بيولوجية تضم خمس مجموعات فرعية من النظم البيئية الوطنية في المملكة. تقع المحمية في جنوب المملكة على طول الحافة الغربية لصحراء الربع الخالي، أكبر صحراء رملية في آسيا، وتمتد على مساحة 12765 كم2، لتحتضن منظراً مهيباً لرمال الربع الخالي التي تعد من أكبر الكثبان الرملية المعقدة في العالم. "العروق" في قائمة التراث العالمي وتعتبر المحمية التي يشرف عليها المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية، هي أول موقع للتراث العالمي الطبيعي على أراضي المملكة يتم تسجيله في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) وهي القائمة الأكثر أهمية لمواقع التراث الطبيعي العالمي، التي تعتمد على معايير دقيقة عند الاختيار، وتشكل طموحاً لجميع المحميات في العالم لأنها تعكس التنوع الطبيعي والثقافي فيه. كما أن التسجيل يعتبر الأول في المنطقة منذ 7 أعوام، لتصبح سابع المواقع التراثية بالمملكة التي يتم تسجيلها في قائمة التراث العالمي. فاختيار هذا الموقع الذي تُتوّجه كثبان الربع الخالي ويتزين بعيون المها ونباتات الغضا وأشجار الطلح، وتسافر في فلواته طيور الحبارى وأسراب القطا، سيسهم في تسليط الضوء على أهمية التراث الطبيعي ومكانته الاستراتيجية والجهود الوطنية المبذولة لحمايته في ظل رؤية المملكة 2030 التي وضعت ضمن مستهدفاتها زيادة عدد المواقع السعودية المدرجة في قائمة اليونسكو للتراث العالمي الى الضعف. وقد عمل المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية على هذا الملف أكثر من سنتين ونصف، أطلع خلالها وفد اليونسكو على المكان، موفراً له جميع الأدوات والتقنيات المساندة خلال رحلة استقصائه، حيث تم استعراض المنطقة بكل شفافية، ليأتي إدراج المحمية بعد التأكد من السلامة البيئية والإدارة الفعالة التي تضمن استدامتها وفق أفضل الممارسات، مع وجود خطط للإدارة المستقبلية. ستة مشاريع ريادية تعتبر المحمية مثالاً استثنائياً للتطور البيئي والبيولوجي، وقد وفر المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية للمحمية 6 مشاريع ريادية هي: حصر وتقييم التنوع الأحيائي، استخدام الطاقة المتجددة والمياه المعالجة، خطة تفصيلية للإصحاح البيئي، خطة المرعى المستدام، إعادة توزيع نطاقات الحماية، وبرنامج المشاركة المحلية والتوعية والتعليم البيئي. تشكيلات جغرافية فريدة تضم محمية عروق بني معارض ذات المناخ الحار والجاف عدداً من التشكيلات الأرضية والمواطن الفطرية الطبيعية الهامة، منها الكثبان الرملية المرتفعة، وهضبة جيرية متقطعة، وهي منقسمة الى أربع نطاقات: نطاق الفلاة وهي منطقة حساسة بيئيًا وتمنع فيها كافة الأنشطة، نطاق الاستخدام المستدام للموارد وهي خاصة بالاستخدام المستدام، ونطاق السياحة البيئية والثقافية وتعد منطقة للسياحة البيئية بمعايير خاصة، ونطاق الاستخدام المكثف وهو نطاق للاستخدام العام، وأخيرا النطاق الآمن وهي المنطقة التي يسمح فيها بجميع الأنشطة ماعدا الأنشطة الضارة بيئيا. تقع عروق الرمال الحمراء موازية لبعضها البعض بأطوال تتراوح بين 200 الى 300 كم ويصل ارتفاعها 150م، ويبلغ عرض العرق الواحد 5 كم، وتفصلها ممرات ذات أسس رملية أو حصوية. بانوراما التنوع الأحيائي حُددت المحمية كمنطقة نباتية مهمة بسبب بيئتها النباتية الغنية التي تضم أكثر من 120 نوعاً نباتياً، فبينما يشح الغطاء النباتي على جرف الحجر الرملي حيث تتوزع أشجار السمر، تُغصن الوديان جانبيه وتغذي مجموعة متنوعة من الشجيرات النامية بما في ذلك الطلح والحرمل والطرف والأثموم والعشر والبقوليات المعمرة. وتنمو بعض النباتات على الكثبان الرملية وخاصة الأرطة العربية، الى جانب السعدية والأعشاب المعمرة، بينما تنمو في الممرات بين الكثبان الرملية نباتات قزمية مثل الرمث الفارسي، البان والعصرة، كما تنتشر أشجار النخيل في جميع أنحاء المحمية. وتعتبر المحمية آخر المواطن في الجزيرة العربية التي شوهد فيها المها العربي عام 1979م، والذي تم تنفيذ برنامج مكثف لإعادة توطينه ولتصبح المحمية هي المكان الوحيد في العالم الذي يعيش فيه المها العربي ضمن نطاقه الطبيعي في قطيع حر يتكاثر ذاتياً، في ظل ما يمتلكه من قدرة قوية على التكيف، الى جانب غيره من الحيوانات النادرة وظبي الريم وظبي الإدمي التي كانت موجودة سابقاً في المنطقة وتم العمل على توطينها وتكاثرت طبيعياً في بيئة المحمية، إضافة الى وجود حيوانات أخرى فيها منها: ثعلب روبل، قط الرمال، الثعلب الأحمر، والأرنب البري، القنفذ الأثيوبي، اليربوع العربي، والزواحف مثل: الضب، والورل، وبعض السحالي والثعابين، إضافة إلى العديد من الطيور كالحبارى، والقطا والحجل والصرد الرمادي والرخمة المصرية ونسر أذون وعقاب صرارة، وأنواع من القنابر التي تُكوّن عناصر فريدة في تركيبتها الساحرة ، لذا تُعدُّ المحمية مثالاً استثنائياً للتطور البيئي والبيولوجي المستمر لمجتمعات النباتات والحيوانات التي تضم المحمية أكثر من 900 نوع منها، وقد تم تسجيل 400 نوع فيها من اللافقاريات تشمل أربعة أنواع من اللافقاريات الجديدة. منظومة التقنية والابتكار تطبق محمية عروق بني معارض تقنيات المراقبة الحديثة بطائرات التحكم عن بُعد "الدرونز" التي يتم استخدامها في إجراء المسوحات البيئية ودراسة الحياة الفطرية بالمحمية، مستفيدةً من جهود المركز في مجال التقنية والابتكار، حيث أطلق البرنامج الأول للتحول التقني بهدف رفع الكفاءة التشغيلية في برامج ومشاريع المحافظة والتنمية التي شملت: تبني الطائرات المسيّرة بدون طيار بهدف القيام بعمليات المسح والمراقبة والاستطلاع وعمل المسوحات والخرائط البيئية والتوثيق والدراسات، وتنفيذ عمليات البحث والإنقاذ، الى جانب تطوير أنظمة الكاميرات والاتصالات اللاسلكية والاتصالات بالأقمار الصناعية، وتبني أنظمة التتبع لدراسة حركة الكائنات وتحديد نطاق الحماية ورصد المخالفات. تجارب سياحية مُلهمة وعلى الرغم من البيئة الصحراوية للمحمية إلا أنها تتمتع بأجواء شتوية مميزة مما يحفز على الاستمتاع بالعديد من الأنشطة السياحية والترفيهية كرحلات السفاري بالسيارات عبر مسارات محددة، والهايكنغ ومنطاد الهواء الساخن والتخييم، والتزلج على الكثبان الرملية وركوب الجمال، ورصد النجوم بالتليسكوب وغيرها من البرامج والأنشطة السياحية التي يتمتع ممارسوها بالحياة الفطرية المحيطة بهم والحيوانات والطيور النادرة التي تزخر بها المحمية، حيث تتحرك أسراب المها العربي بعد أن تم توطينه وتتمايل أغصان الغضى وأشجار الطلح لتزدهر وسطها الحياة الفطرية، التي تزدهي بفسيفساء من التشكيلات الأرضية والمواطن الفطرية الطبيعية المتقاطعة مع الكثبان الرملية والهضبة الجيرية المتقطعة، التي تنهض خلالها الحياة الفطرية في تمثيل بديع للبيئات القاحلة التي تشيع فيها النباتات الفريدة. تعكس تجارب زيارة محمية عروق بني معارض ما تحفل به المملكة من تنوع سياحي غني بالاكتشاف والمغامرات وبالتراث والثقافة، خاصة وأن المحمية تقع على مقربة من قرية الفاو الأثرية الزاخرة بالكثير من الآثار والمنحوتات التي تعود الى القرن الرابع قبل الميلاد، مما يفتح المجال للعديد من الخيارات والتجارب السياحية والتاريخية المثيرة والشيقة التي تجعل من المحمية: "كنز الطبيعة في شتاء السعودية" الذي أضفى عليها قيمة استثنائية، تتناغم مع صفاتها الفريدة التي جعلتها تتجاوز في أهميتها الحدود الوطنية لتشمل الأجيال الحاضرة والمقبلة للبشرية جمعاء. استراتيجيات إدارة المناطق المحمية ويجسد تميز هذه المحمية حجم الجهود التي يبذلها المركز في برامج الإكثار وإعادة التوطين، واستراتيجياته في إدارة المناطق المحمية، التي تصدرت مبادراته البيئية، الى جانب عنايته بالسياحة البيئية التي تستند الى الموازنة بين النمو الاقتصادي واستدامة النظام البيئي، مع الحرص على تعظيم الأثر الاقتصادي والاجتماعي خاصة في المجتمعات المحلية، في ظل إعداد المركز "الخطة الاستراتيجية لسياحة المحميات" لتقليل التأثيرات المتوقعة من أنشطة السياحة على الخصائص الطبيعية والثقافية للمناطق المحمية، الى جانب وضع الضوابط العامة للسياحة المستدامة واشتراطات الاستثمار في المناطق المحمية وضوابط لتنظيم الصيد ومحميات الصيد الخاصة، مع إعداد "الاستراتيجية الوطنية للسياحة البيئية"، اضافة الى جهود المركز في تأهيل وتدريب وبناء قدرات الكوادر البشرية وتحفيزهم على البحث والابتكار والارتقاء بالقوى العاملة في الجوالة بهدف خلق جيل معرفي يسهم في تحقيق رسالة المركز. كما تعكس جهود المركز في المحميات الطبيعية حرصه المستمر على تطوير البحوث واستقطاب الخبرات والاستفادة من التجارب العالمية، الى جانب عنايته التامة بالتحول الرقمي بما يخدم المركز في تحقيق مستهدفاته الاستراتيجية، والعمل وفق أسس علمية تستند الى بناء قاعدة معرفية ثرية عن الحياة الفطرية لوضع خط أساس معرفي ينطلق منه في برامج المحافظة والتنمية والإدارة المستدامة.