حينما ظهرت على قناة العربية في شهر مايو 2019 أي نحو قرابة خمس سنوات، وقلت: "التشهير بالمتحرشين مطلب شعبي" كنت مؤمنة بشدة بقناعتي ومؤمنة أكثر بدولتي العظيمة وما لمسته من رغبة حقيقة لدحر المجرمين وضبط السلوك الاجتماعي الضار أيضا بالتزامن مع الأدوار الريادية المتميزة للنيابة العامة والحملات التوعوية الاستباقية، ولعل عامي 2018 و2019 شهدا ذروة التكالب على الوطن ما بين الأصوات الشاذة التي لا تدخر جهدا في التشكيك بمنجزاته أو في الحملات المغرضة لتشويه سمعتنا وإظهار أننا غير جادين في تنقية الفضاء العام من أي تهديد أخلاقي سواء بالكلام أو الإقدام بالفعل على الأذى. واتفق تماما مع ما ذهب إليه الأستاذ الدكتور والكاتب أحمد الجميعة حينما وصف وزارة الداخلية بأنها "عين المجتمع " والتي تحمل الثقة المطلقة من الأفراد في تحقيق الغاية وأكد أن عقوبة التشهير أكبر وقعا على النفس وأكثر تأثيرا في ضبط السلوك، وزاجر نفسي وحسي من التحرش بالآخرين وهذا الأمر أجد أنه دقيق خاصة أننا في مجتمعات السمعة فيها تتعدى سلوك الفرد وهذا واقع. وسرعان ما توالت أخبار وأسماء المتحرشين ما بين وافدين ومواطنين منهم المتحرش بالنساء وآخر بحدث ولعل البعض يغفل عنه مضاعفة العقوبة لبعض الفئات كالتحرش بالأطفال أو أن يكون من ذوي الاحتياجات الخاصة، وإذا كانت تربط الجاني بالمجني عليه سلطة مباشرة أو غير مباشرة، كأماكن العمل أو المنازل، وقد شددت النيابة العامة على الجهات المعنية في كافة القطاعات ضرورة وضع التدابير اللازمة للوقاية من التحرش ومكافحته في بيئة العمل ويحق لكل من اطلع على حالة تحرش إبلاغ الجهات المختصة لاتخاذ ما تراه، الجهات الأمنية اليوم تعلن بوضوح أن الانضباط المجتمعي لم يعد اختياريا ولا يخضع للسلطة التقديرية للأفراد ولا السلوم والعلوم. اليوم الجزاء معلوم ومعلن؛ وقد أسلفت في مقالي للأسبوع الماضي عن دور الرقابة التقنية في تعزيز الأمن الاجتماعي نحو ترسية مفهوم "المدينة الآمنة" وأجد أن التشهير لم يعد غاية، بل هو يد رادعة لأصحاب الأنفس الدنيئة فلا يقبل على هذه السلوكيات سوى المرضى والمعتلين وفاقدي الأخلاق، بل إن الإنسان السوي لا يضع نفسه موضع شبهة ولا يقبل أن يهان إنسان أو تمس كرامته ويصمت. لكن علينا أن لا نفرط في التفاؤل فالتشهير أيضا له تبعاته الاجتماعية التي قد تحضر معها التفافات جديدة وسيناريوهات جديدة لمسرح الجريمة؛ جيني سوك جيرسن الباحثة القانونية الشهيرة في كلية الحقوق بجامعة هارفرد كتبت في نيو يورك تايمز مقالا هاما بعنوان: "الجانب المظلم من قانون التشهير" حيث قالت: "في السنوات الأولى لبلدنا، كان من الممكن أن ينتهي الأمر بالرجال الذين يشعرون بالإهانة إلى القتل بسبب ذلك"، وأضافت: "وفي الحقيقة، فإن قوانين التشهير الأكثر صرامة لن تنقذنا أيضًا" وقد ناقشت قوانين التشهير من منظار الحرية الصحفية بعرض تاريخي، لكن أجد أنه بجوار الاحتفاء بهذه التطورات العدلية من المهم أيضا الاستعداد للجوانب المظلمة والتحورات المحتملة. أخيرا، فإن النظر في القضايا الأخلاقية مع تصاعد الخطابات المتطرفة بين الجنسين أمر هام، ومع سقوط حجج المتحرشين بأن المجني عليه "جاني" سواء لمظهره أو سلوكه اليوم الدولة تضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه بالمساس بحياة البشر، ومن الضروري مواصلة التحقق من وصول هذا الوعي لكافة الأفراد وأن يفهم الضحايا قيمتهم وأن لا يدفعهم هذا الأمر لكراهية حياتهم أو اشعارهم بالإذلال وأن يطلبوا المساعدة دون تردد سواء عبر القنوات المجانية للصحة النفسية أو التوجه للمراكز التي تساعد في تجاوز هذه الصدمات، وهذه نقرة لذهن كل راع من أم وأب ومعلم أبقوا قنوات الحوار بينكم وبين أطفالكم مفتوحة فالعالم مخيف.. دمتم بأمان.