سياسة التجويع المُمنهج التي تمارسها إسرائيل على سكان غزة تُمثل جريمة عظمى من جرائم الحرب التي يدينها القانون الدولي والإنساني، وتدلل على عدم إيمان إسرائيل ومن يدعمها بمبادئ حقوق الإنسان التي أقرتها الأممالمتحدة.. إذا استطعنا توصيف الاستعمار بالسياسات غير الأخلاقية، والسلوكيات المُتطرفة، والممارسات الإرهابية، تجاه الشعوب المحتلة، والأراضي المستعمرة، والموارد المسلوبة والمسروقة، فإن تلك الأوصاف ستكون محدودة في توصيف مدى القُبح والإجرام والبشاعة عندما نقارنها بسياسة التجويع المُمنهج والاستيطان المُستمر التي يمارسها المحتل على سكان الأرض المُحتلة وعلى فضاءاتها الجوية والبحرية والحدودية. نعم، إن الاستعمار سياسة غير أخلاقية مارستها القوى الدولية الغربية تحديداً تجاه الشعوب والأقاليم القريبة والبعيدة لما يزيد على أربعة قرون ماضية حتى تلاشى بعضاً من قوتها الذاتية، وتراجعت مكانتها الدولية، وتغير شكل البنيان الدولي، لتجد تلك الشعوب المُستعمرة فرصتها لتنال استقلالها القومي بقدراتها الذاتية، وبتضحيات أبنائها في كثير من الحالات، أو بدعم استقلالها بشكل غير مباشر من قوى دولية ذات مكانة وقدرة في المجتمع الدولي، ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945م)، وتأسيس هيئة الأممالمتحدة (1945م)، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان المعتمد من الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر 1948م، تصاعد التفاؤل لدى الشعوب المُستعمَرة بقرب نيلها الاستقلال بأية طريقة كانت، وهذا الذي تحقق تدريجياً حتى تمكنت معظم الشعوب المستعمرة من تأسيس دولها وبناء مجتمعاتها ونظامها السياسي بالطريقة التي تناسبها. نعم، إننا عندما نقول إن معظم الشعوب تمكنت من نيل حرياتها السياسية، وتأسيس نظمها ودولها، والتحرر من ظلم وجور الاستعمار، فإننا لم نتمكن من قول جميع الشعوب، لوجود الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال الإسرائيلي بشكل مباشر مُنذُ تأسيس الأممالمتحدة (1945م)، ومُنذُ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948م)، وما زال حتى يومنا هذا. وعندما نشير لاستمرارية سياسة الاحتلال المُباشر التي تُمارسها إسرائيل تجاه أبناء الشعب الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية المُمتدة في الضفة الغربية وقطاع غزة، فإننا هنا يجب أن نُفرق بين قُبح سياسة الاستعمار التاريخية التي مارستها القوى الغربية في القرون الماضية، والقبح المُضاعف والإجرام المُتصاعد الذي تمارسه قوات الاحتلال الإسرائيلية تجاه أبناء الشعب الفلسطيني عموما، وتجاه أبناء غزة بشكل خاص. نعم، إن سياسة الاستعمار الإسرائيلية تجاه أبناء الشعب الفلسطيني تتجاوز في إجرامها ما تم تصويره من جرائم في الكتب والمذكرات والوثائق التاريخية، وتتعدى في قبحها ما تم روايته والحديث عنه في المنابر والمجالس والمحافل الدولية في الماضي والحاضر، وذلك لأن ما تمارسه قوات الاحتلال الإسرائيلية في وقتنا الراهن، من جرائم وسلوكيات مُتطرفة تنقله وسائل الإعلام لمختلف أرجاء العالم، وتشاهده الأعين وتسمعه الآذان وتشعر به الأفئدة والقلوب في كل أطراف المعمورة. وإذا تحدثنا عن مدى القبح والإجرام في المُمارسات الإسرائيلية تجاه أبناء الشعب الفلسطيني في وقتنا الراهن، فهذا القبح والإجرام إنما هو امتداد لذلك القبح والإجرام الاستعماري الذي تمارسه قوات الاحتلال الإسرائيلية تجاه أبناء الشعب الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية. نعم، إننا نتحدث عن استمرارية استعمارية إسرائيلية، ومعاناة فلسطينية مستمرة، وشهادة دولية مستمرة على ذلك الاستعمار المستمر، وتلك المعاناة المتواصلة منُذُ بدء الانتداب، أو الوصاية، أو الاحتلال، البريطاني على الأراضي الفلسطينية عام 1920م، لتتصاعد تلك المعاناة والمآسي بعد قيام إسرائيل عام 1948م، ليصل إجرامها وقبحها لمستويات غير أخلاقية وغير إنسانية في وقتنا الراهن. نعم، إن مستوى الإجرام والتطرف والإرهاب الذي تمارسه قوات الاحتلال الإسرائيلية تجاه أبناء الشعب الفلسطيني عموماً، وفي غزة بشكل خاص، يتماثل تماماً مع ما شهدته مدينتي هيروشيما وناغازاكي عندما أُسقطت عليهما القنابل الذرية بنهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945م. وهذه المُقاربة بين الحادثتين قائمة بحكم حجم المُعاناة والمصائب والكوارث التي أصابت سكان تلك المدن اليابانية، وسكان قطاع غزة محدود الموارد والإمكانات، فإذا كانت تلك الكارثة الإنسانية أصابت سكان المدن اليابانية من جراء القنابل الذرية، فإن الكارثة الإنسانية التي أصابت سكان قطاع غزة تتمثل في الاحتلال أو الاستعمار المباشر لأكثر من مئة عام، وذلك مُنذُ بداية الاحتلال البريطاني ليتبعه الاحتلال والإجرام الإسرائيلي، بالإضافة إلى قيام قوات الاحتلال الإسرائيلية باتباع سياسات الحصار الشامل والمستمر، وسياسات الأرض المحروقة لتجويع سكان القطاع، وإغلاق المعابر، واستهداف المدنيين والأطفال وكبار السن، والتحكم الكامل بمصادر العيش لسكان قطاع غزة محدود القدرات والإمكانات، وإذا كانت وسائل الإعلام المختلفة والمتنوعة والمتعددة تنقل لنا حجم الدمار الشامل الذي أصاب كل شيء في قطاع غزة، وكأننا أمام مشاهد الحرب العالمية الثانية وما أصاب المدينتين اليابانيتين، وإذا كانت البنية التحتية لم يعد لها وجود في جميع أنحاء قطاع غزة بسبب كثافة وعشوائية الضربات العسكرية ونوعية السلاح المستخدم، وإذا كانت المعاناة الإنسانية المتمثلة بعدد القتلى والمصابين والمُهجَّرين تؤشر لجانب مُظلم في حياة الإنسانية، فإذا كان ذلك كله يمثل كارثة وغياب كامل للأخلاق والقيم والمبادئ الإنسانية، فإن سياسة التجويع المُمنهج الذي تمارسه قوات الاحتلال الإسرائيلية تجاه سكان قطاع غزة تمثل الجانب الأكثر ظلاماً وقبحاً وإجراماً في حياة البشرية على امتداد تاريخها. نعم، إن سياسة الحصار الشامل والمستمر، وسياسة التجويع المُمنهج لسكان قطاع غزة تعبر عن الغياب الكامل للأخلاق لدى المستعمر ومن يدعمه من قوى دولية، وتدلل على عدم إيمان إسرائيل، ومن يدعمها من قود دولية، بالقيم والمبادئ والحقوق الإنسانية التي يدَّعون الإيمان بها. وإذا كانت هذه المآسي والكوارث الإنسانية ظاهرة ومشاهدة في قطاع عزة عبر ما تنقله وتتناقله وسائل الاعلام المختلفة، فإن هناك صورة أخرى على أرض الواقع تنقلها تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش، بحسب موقع الأممالمتحدة في 11 مارس 2024م، قال فيها: "رغم بدء شهر رمضان، يستمر القتل والقصف وسفك الدماء في غزة." وناشد احترام روح شهر رمضان بإسكات الأسلحة وإزالة جميع العقبات لضمان توصيل المساعدات الإنسانية المنقذة للحياة بالسرعة والنطاق الضروريين. (وأضاف) شهدنا شهرا بعد شهر قتل المدنيين وحدوث دمار، على مستوى غير مسبوق خلال كل سنوات عملي أمينا عاما للأمم المتحدة. وفي نفس الوقت تأتي المساعدات المنقذة للحياة للفلسطينيين بكميات قليلة للغاية، إنْ جاءت أصلا. وحذر من عواقب التهديد بشن هجوم على رفح والذي قد يدفع بأهل غزة إلى أعماق جديدة في الجحيم. وقال إن المدنيين اليائسين بحاجة إلى العمل الفوري." وبالإضافة على هذا التصريح الإنساني للأمين العام للأمم المتحدة، عبر المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، وهو بحسب موقعهم الرسمي: منظمة مستقلة غير ربحية يشكل ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان نحو 70 % من العاملين والمتطوعين بها، عن مدى المعاناة التي يعيشها سكان غزة، ومن ذلك ما جاء عبر موقعهم في 10 مارس 2024م تحت عنوان "بالقصف والتجويع والجفاف والحرمان من الرعاية الصحية.. المسنون يقتلون واحدًا تلو الآخر شمالي قطاع غزة"، بالقول: "إن فريقه الميداني بات يوثق على نحو شبه يومي حالات وفاة في صفوف كبار السن نتيجة جرائم التجويع والحرمان من العلاج التي ترتكبها إسرائيل في القطاع على نحو منهجي وواسع النطاق، خاصة في مدينة غزة وشمالها. وأكد أن أغلب هذه الحالات لا تصل إلى المستشفيات التي تعمل بشكل جزئي في شمال غزة، نظرًا لصعوبة الوصول وخطورة الحركة في ظل الهجمات العسكرية الإسرائيلية المتواصلة، وبالتالي تتوفى ويجري دفنها بجوار منازلها أو في المقابر المؤقتة المنتشرة في القطاع، والتي تجاوز عددها حتى الآن 140 مقبرة. (وأضاف)، أن الحصيلة المباشرة للهجوم الإسرائيلي ارتفعت إلى أكثر من 40 ألف قتيل، نحو 92 % منهم من المدنيين، و7 % من كبار السن، وذلك في غضون خمسة أشهر منذ بدء جريمة الإبادة الجماعية. وأكد أن آلاف الضحايا سقطوا ولم يوثقوا في المستشفيات كونهم ضحايا غير مباشرين؛ نتيجة الجوع وسوء التغذية وغياب الرعاية الصحية." وفي الختام من الأهمية القول إن سياسة التجويع المُمنهج التي تمارسها إسرائيل على سكان غزة تُمثل جريمة عظمى من جرائم الحرب التي يدينها القانون الدولي والإنساني، وتدلل على عدم إيمان إسرائيل، ومن يدعمها، بمبادئ حقوق الإنسان التي أقرتها الأممالمتحدة، وتؤكد على غياب العدالة الدولية بنُصرتها للقوي المُحتل على حِساب سُكان الأرض الأصليين. نعم، إن سياسة التجويع التي تمارسها قوات الاحتلال الإسرائيلية تجاه سكان قطاع غزة تُعبر عن الغياب الكامل للأخلاقيات والمبادئ والقيم الإنسانية، وتفضح حقيقة المبادئ والقيم التي تقوم عليها إسرائيل، وتدلل على استمرارية غياب العدالة في النظام الدولي على امتداد تاريخه البعيد والقريب والراهن.