على منابر الخطباء والشعراء في سوق (عكاظ، وذي المجاز، ومجنة) وغيرها من أسواق العرب القديمة، كان صوت الشعر والخطابة والحكمة يعلو على كل الأصوات، وكان مولد الشعر في القبيلة أشبه بمولد الانتصار، ومما يذكره لنا التاريخ احتفاء العرب في مواسمهم وأسواقهم بالقصائد وفرائد الشعر، فجعلوا من هذه الأسواق محكّاتٍ، ومعايير للتفاضل الشعري، منها ما كان (للنابغة الذبياني) من القول الفصل، وهو يقيّم الشعراء ويصدر آراءه الأدبية، حين يصغي بسمعه لقصائدهم، وكم كانت (الخنساء) تبوح بأحزانها على (صخر) فكاد الشجر يشاطرها حزنها قبل البشر، ومرت القرون والسنون ولا زال الإنسان العربي يغدق على الشعر والخطابة عطاءً ورعايةً خاصّة، ويمنح الشعراء منابر للشدو، والبيان، وإلى اليوم تتجدد الأفكار الأدبية التي تتنافس في ابتكار منابر شعرية، تفيض بروح التنافس والتفاعل، وما بين وقفة النابغة وأحكامه وبين تعليق (لجنة التحكيم) في قصائد الشعراء المعاصرين، رحلةٌ من العطاء الأدبي تمور بالتلقي والمقارنة، والانطباعات النقدية المختلفة، على طريقة البرامج السباقية، أو من خلال تفاعل الجماهير العريضة بالحضور المباشر، وغير المباشر، وبين وقفة عكاظ وذي المجاز (وبرامج) الشعر المعاصر مفارقات تدعو للتأمل بالفعل، لعل من أهمها واقعُ القصيدة العربية من حيث القيمة الفنية، وطبيعة النص الشعري، وإذا كان (رولان بارت) يقول بموت المؤلف وأنه لاشيء سوى النص، إذ منه تنطلق الرؤية والتلقي، وإليه تنتهي، فإن المفارقة الواضحة في هذا المشهد الأدبي هي اختلاف الحالة الثقافية في الوسط المحيط ما بين القصيدة في سوق عكاظ، وبينها في برنامج مثل (المعلقة)، أو (أمير الشعراء) أو غيرها من منابر الشعر الحديثة، فحين كان سموم القيظ يلفح وجوه العرب وهم يتقاطرون من الفجاج، والشعاب، للظفر بهذه التظاهرات الأدبية التاريخية، هاهو العربي ذاته يعتلي منابر الأضواء ومكبرات الصوت، وأرائك اللجان وقاعات الحضور، هنا مشهدان يبلغان ذروة التناقض مادّةً وديكوراً، ولكنهما في الوقت نفسه يتوحدان في مواجهة القصيدة والصورة البيانية والاستعارة الشعرية. وقديما في عكاظ وذي المجاز كان الحضور الجماهيري تحت لهيب الشمس، وعلى رمضاء الشقاء والجفاف، حضور يجلله سموم القيظ وسراب الظمأ، بينما قصيدة اليوم تحيطها رفاهية العصر وتقدمه الحضاريّ، وطفرته الرقمية، ومع كل هذا فلا يزال هناك (سرٌّ عربيّ) يكمن في حقيقة الولع بالقصيدة، والافتتان بجمال النص والشعرية، هو أمرٌ يدعو للتأمل والنظر أيضاً، ولقد مرّ الإنسان في كل هذا الكون بالكثير من المستجدات والثورات الصناعية والمتغيرات الفكرية التي جعلت من تاريخه مراحل من التنوع والاختلاف، لكن على وجه التحديد ظلّ قلب العربي وعقله محلّ فتنةٍ وانجذابٍ بدهشة الصورة الشعرية، وبقي خاطره مغرماً بجماليات الكلمة، ومنبهراً بنبرة الخطابة، وسحر البيان، وكلما مضت الحياة بنا، نسينا أشياء كثيرة في حياتنا، إلا قصائد الشعر، وأبيات الحكمة، والغزل، والفخر، تظل أقرب إلينا من حقائبنا في السفر، وأسرع إلينا من مراكب التنقل والعيش، تظل قصائدنا (قهوتنا المرّة المستطابة) كما يقول شاعر البيد (محمد الثبيتي )، ومع تعاقب أجيالنا يبقى هذا الإرث الأدبي أدوم وأثمن من الكثير من الثروات والأملاك التي ربما تموت وتذروها رياح الزمن، فالقصيدة في ذاكرة العربي باقيةٌ تُنصب لها رايات السباق والاحتفاء، فهل تشكل هذه المنابر الإعلامية اليوم رافداً للقصيدة العربية؟ وهل يضيف هذا السباق مزيداً من الإقبال والحضور؟ خصوصاً ونحن نعيش زمن الإعلام وسطوته وتأثيره، فإذا كان الشاعر قديماً هو صوت القبيلة وإعلامها، فإن الشاعر اليوم هو القصيدة المدعومة بالإعلام، والرهان يبقى إذاً على مدى قدرة هؤلاء الشعراء على إثبات حضورهم، وعلى تأكيد امتداد تراثهم الأدبي عبر الزمن. د. عبدالله عوض القرني