عاشت الجزيرة العربيّة دهرًا من المعاناة والعزلة، وشظف العيش والقلة، في ظلّ قلقٍ دائم من مجهولٍ جاثم، لا يكاد يغادر حاضرة أو بادية، فإضافة إلى قسوة الطبيعة الجغرافيّة والمناخيّة، وغياب الأمن والأمان، والسلطة المركزيّة الجامعة لقرونٍ طوال؛ كان تشتّت الناس بين إمارات محليّة متنازعة، وقبائل متناحرة، وتبعيّات عابرة للمكان والانتماء الأصيل، هو العنوان الدال والمعبّر عن أوضاع الجزيرة العربيّة وعمّا يعيشه أهلها من أهوال ومتاعب. بهذه الوضعيّة التاريخيّة، بدا قيام دولة مركزيّة ضرورة سياسيّة، واجتماعيّة، وحضاريّة؛ فلاحت ومضة أملٍ ونورٍ من قلب جزيرة العرب، موئل تاريخها المجيد، ومعين قيمها التليد، مبشّرةً بمستقبلٍ جديد طال انتظاره، وعاقدةً موعدًا مع طموح لا يلين، وأسرة مُلكٍ مكين، وقائدٍ رشيد؛ فبدأت ملامح دولة وليدة في التشكّل من الدرعيّة، يسعى حكّامها إلى تغيير الواقع المرير، وينشدون العزّ الوطيد، وينشرون الأمن الفقيد، ويأبون التبعيّة الجاثمة منذ قرون في جزيرة العرب؛ لينطلق تأسيس الدولة السعوديّة على يد الإمام محمد بن سعود عام 1139ه/ 1727م. كان الهمّ الأوّل لأئمة الدولة السعوديّة وملوكها منذ لحظة التأسيس، هو خلق بيئة آمنة، وهذا الأمر لا يمكن تحقيقه إلا بتوحيد البلاد، وإقامة العدل، ونصرة المظلوم، وإرساء القانون المرجعيّ الذي يستند إليه الجميع، من دون تمييز بين شخص وآخر، لأيّ اعتبارات كانت، أمام القضاء والقانون؛ وقدّ حقّق الله لهم هذا المسعى الحضاريّ النبيل فتأسست دولة مترامية الأطراف، شاع فيها الأمن، وساد فيها السلام والأمان، وظهرت فيها المهابة للعيان، في المنطقة وفي كلّ مكان. أدّى الاستقرار السياسيّ إلى استقرار اجتماعيّ هيّأ البيئة لرخاء اقتصاديّ، وتمدّن إنسانيّ، ورقيّ ثقافيّ، وتبادل حضاريّ؛ فأمست الدرعية وعموم نجد وكلّ شبر تابع للدولة السعوديّة مكانًا جاذبًا يقصده الناس من كلّ حدب وصوب، آمنين مطمئنين على نفوسهم وأعراضهم وتجارتهم، وهذا التعدّد والتنوّع الذي أصبح حاضرًا بكلّ وضوح منذ التأسيس، هو من أبرز سمات الحضارة والمدنيّة في تاريخ الأمم والشعوب. إنّ المتأمل لتاريخ الدولة السعوديّة، منذ تأسيسها على يد الإمام محمد بن سعود -رحمه الله-، مرورًا بتقلّبات السنين وسياسات العالم وخرائطه؛ حيث قامت دول، واندثرت أخرى، إلى عهد مؤسس المملكة العربيّة السعوديّة الملك عبدالعزيز -طيّب الله ثراه-، ومن بعده ملوك المملكة العربيّة السعوديّة، وصولًا إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي عهد الأمين رئيس مجلس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، وما ترفل فيه البلاد من عزّ دائم ونماء شامل أبهر العالم أجمع يلاحظ المسعى الحضاريّ الذي قامت عليه الدولة، وأنّ استثمارها الحقيقيّ، وغايتها القصوى، هو المواطن السعوديّ الذي آمنت بقدرته، ورأت أنّه أغلى ما تملك. هكذا بدت ملامح تأسيس الدولة السعوديّة منذ ما يزيد على ثلاثة قرونٍ إلى يومنا هذا، بوصفه حالة تحوّل حضاريّ فارق، كانت مقدّمة لرؤى مستقبليّة لا تنفد، وطموح يعانق السماء جيلًا بعد جيل، وهمّةٍ كجبل طويق لا تلين لكلّ صعبٍ وبعيد، تُعلي من قيمة الإنسان، وتنشر الخير والعدل والسلام، في كلّ بقاع الكون، وحيثما وجد الإنسان.