إذا سمعت اصطفاق الأمواج وأنت على تخوم جزيرة فرسان (جنوب غربي السعودية) فاعلم أنها طربت لقصيد بديع دوزنه شاعر الجنوب الأستاذ إبراهيم مفتاح - مد الله في عمره - ذلك لأنه إذا رام أن يدبج قصيدة جمع حواسه وانطلق يتدفق شعراً باذخاً تكتنفه عاطفة جياشة وصوراً متوهجة وخيالاً خصباً يسري بين شرايين القصيدة متلفعاً بلغة فاتنة تأسر المتلقي ليميل إليها كل الميل، واعلم - يا رعاك الله - أنك في حضرة شاعر مجيد يعده النقاد أحد شعراء السعودية المعدودين. النشأة والتكوين: استقبلت جزيرة فرسان الطفل إبراهيم بن عبدالله مفتاح عام (1358ه) لأسرة يمتهن معظمها مهنة الصيد والغوص، وبعد سنوات خمس شاء القدر أن يكون في رعاية والدته الرؤوم بعد انفصال والديه، فنذرت هذه الأم الرحيمة حياتها لتربية وحيدها وتنشئته نشأة صالحة تقدمه فيها للمجتمع، ذلك أنها كانت تطمح أن تخرجه من مهنة ذلك المحيط حيث الصيد والغوص ليكون ذا شأن آخر فدفعت به إلى (الكتّاب) أو ما كان يعرف ب(المِعْلامة) وأوكلت الشيخة مرْضية سهيل لتعلمه في كتّابها مع قبيل من مجايليه، ثم انتقل ليكمل تعليمه عند الشيخ محمد بهكلي أمام وخطيب جامع فرسان، أصبح الطفل إبراهيم يحفظ شيئاً من القرآن وعرف قليلاً من الكتابة أهّلته لينضم إلى كتّاب الشيخ أحمد الحربي فتعلم عنده القراءة والكتابة والخط وأكمل حفظ القرآن، هذه الحصيلة العلمية عززته ليكون أحد طلاب مدرسة فرسان الابتدائية فيكمل فيها تعليمه على يد أستاذه الشيخ حسن بن علي مظفر فقرأ عليه عدداً من الكتب الدينية وجمهرة من كتب الأدب. انقطع فتانا عن التعليم بناءً على رغبة خال والدته وسرعان ما زج به في (دكان) ليبيع ويشتري ويصنع من هذا الفتى رجلاً مبكراً، إلا أن لهذه القسوة فتحت له آفاقاً من الثقافة والآداب لكونه يصرف نهار يومه فيه، فقرأ جملة من السير التاريخية الشعبية وعدداً من الروايات الغربية المترجمة التي كانت تصدرها دار الهلال المصرية ثم عكف على قراءة إنتاج رواد النهضة الأدبية وغيرها من الكتب التي كان يرسلها له أخواله حينما يرتادون مدينة جدة، لم يكن الكتاب وحده سمير هذا الشاب بل راح يتابع ما تجود به المحطات الإذاعية من برامج إذاعية تبثها BBC وصوت القاهرة فغذت وجدانه وساهمت في تثقيفه. عاد الشاب إبراهيم للدراسة مرة أخرى بعد أن دفعت مديرية التعليم بنفر من المدرسين العرب وكان من بينهم معلم فلسطيني ينظم الشعر اسمه بكر الهسي فلجأ إليه يستفيد من ثقافته وتجربته الشعرية لا سيما علم العروض وأخذ إبراهيم يستظهر عيون الشعر العربي، فبدأ قلمه يشاغب الأوراق ليكتب أولى قصائده ويدفع بها إلى جريدة الندوة فتنشرها له عام (1376ه)، إذ يقول في مطلعها: الشمس غابت والشعاع قد انستر وأتى الظلام وفي طليعته القمر فترى النجوم كعسكر حاطوا به شرقاً وغرباً.. أيما مُدّ البصر وهو بذلك يعلن تفتح أكمام شاعريته الغضة. أنهى إبراهيم مفتاح مرحلة الدراسة الابتدائية وأبحر صوب الشرق والتحق بمعهد المعلمين الابتدائي بجازان عام (1377ه) وأمضى به أربع سنوات ليتخرج فيه وينتقل بعدها إلى محافظة بيش مدرساً في ابتدائيتها يدرس طلابها مواد اللغة العربية ومواد التربية الدينية وفي مناشط المدرسة اللامنهجية استطاع مفتاح أن يدخل لطلابه الصحافة الحائطية وأخذ ينشئ المسرحيات ويلحن الأناشيد ويقدمها أبناؤه الطلاب في احتفالات المدرسة، أربع سنوات قضاها بين فصول هذه المدرسة لينتقل إلى المدرسة السعودية بجازان ويمضي بها العامين ثم ينتقل بعدها صوب الطائف ويكون ضمن طلبة مركز الدراسات التكميلية الذي تخرج فيه عام (1390ه) ثم يشاء القدر فيعود إلى جزيرته الحالمة (فرسان) معلماً في مدرسة فرسان الابتدائية ويمارس هواياته مع طلابه كإقامة المسرحيات وإنشاء المجلات الحائطية وتقديم الأناشيد الوطنية ما جعل كثيراً من طلابه يعشقون الأدب والصحافة ومن بعض هؤلاء الطلاب اللغوي عبدالرحمن الرفاعي والتشكيلي خليل حسن خليل والكاتب إبراهيم نسيب والشاعران حسين سهيل وعبدالمحسن يوسف وغيرهم كثر. في بلاط صاحبة الجلالة: اختار الأديب والناقد علوي طه الصافي رئيس تحرير مجلة الفيصل الأسبق في عَلَمِنا الأستاذ إبراهيم مفتاح أن يشاركه العمل الصحفي مديراً لتحرير المجلة وتوسم منه نجابة ونجحاً، فكان له ذلك حيث شد مفتاح رحاله نحو العاصمة الحبيبة ويسهم بحضوره الفاعل في ميدان الصحافة الأدبية، فَراح يقدم الاستطلاعات ويجري الحوارات المثرية مع كوكبة من أعلام الأدب في تلك الحقبة منهم مع حفظ الألقاب: محمد حسن عواد وعبدالله البردوني ومحمد بن سعد بن حسين وعبدالقادر القط وعبدالعزيز المقالح وإحسان عباس وأحمد الشامي وحسن اللوزي وغيرهم من الأصوات الأدبية المعروفة. لم يلبث شاعرنا إبراهيم مفتاح في الرياض غير مدة قصيرة، إذ سرعان ما عاد إلى جزيرته الحالمة والعودة إلى سلك التعليم تارة أخرى حتى تقاعده. إلا أن الكتابة الصحافية مازالت تراوده فأخذ يغدق على بعض الصحف ما تجيش به مشاعره من قضايا ثقافية في الأدب والموروث الشعبي الفرساني ومسائل محلية قد تعيق تقدم فرسان وهموم اجتماعية يضع فيها رأيه بكل أريحية وشفافية، وأغلب ما خطه في الصحف جمعه في كتب عرفها المتلقي. شاعر البحر: شكل الشعر عند إبراهيم مفتاح جزءاً كبيراً من مساحة اهتمامه الثقافي لذلك ترى قريحته سرعان ما تستجيب لعواطفه ومواقفه فينهمر شعراً أنيقاً يملأ فضاء تلك الجزر ليعْبُر الآفاق مكوناً ألواناً من الجمال ويرسم تفاصيل البهجة على بناء القصيدة ويصور ملامح النص المضمخ بالغنائية، لأي انفعال يلامس قلبه إلا وتكون القصيدة أُولى نتائجه السعيدة، فظل على ذلك المنوال مع خدينه الشعر عقود طويلة يسهر معه إذا جفاه النوم، ويرحل معه إذا عز عليه المقام، فأنشأ عشرات النصوص الشعرية بكل إبداع حتى نافت عن الثلاثة دواوين هي: (عتاب إلى البحر) عام (1404ه) و(احمرار الصمت) عام (1409ه) و(رائحة التراب) عام (1419ه) وغيرها من القصائد التي تفرقت في أنهار الصحف والمجلات مؤخراً وستظهر مع أعماله الشعرية الكاملة التي ينتظر صدورها قريباً بإذن الله، وفي كل ديوان من هذه الدواوين تدرك مدى التطور الذي انتاب الشاعر مفتاح والبراعة التي وصل إليها. يحضر شعر المناسبات في تجربة الشاعر إبراهيم مفتاح بشكل طاغٍ في أغلب نصوصه وأكثره تداولاً وأعمه شيوعاً، فالمناسبة في وجدانه لا راد لها إلا الاستجابة الشعرية السريعة ثم يطلق لها العنان وهذا من الصدق الفني الذي يمتلكه الشاعر ويقدمه بكل ما يملك من الصور المشرقة والخيال الخصب واللغة الفاتنة، انصت إليه وهو يقول في قصيدة فرسان تخاطب البحر: هذه ليلتي ويوم حياتي صِرْتَ يا بحر دجلتي وفراتي الهوى أنت كله والأماني فاملأ الكأس بالزلال وهات أرقص اليوم فرحةً وأغني وأذيب الشجون في نغماتي واستمع إليه يشدو طرباً لمقدم الأمير نايف بن عبدالعزيز - رحمه الله - حين سعدت بزيارته فرسان فانطلق الشعر من فؤاده فرحاً وطرباً: بيض الليالي أتت أهلا ليالينا واستبشري يا ربى فرسان هُنّينا واستقبلي نفحة لله ما حملت من فرحت تُنْبت الدنيا رياحينا آمالنا ياسمو الضيف قد كبرت ومن سموكمو تأتي معالينا أشواقنا للعلا جذلى تدغدغها أنامل تزدهي فيها أمانينا أما مساءات الطائف واحتفالاتها بالشعر والشعراء فقد ألهمت مفتاح بالمعاني الحسان فانطلق يرسم فضاءً جديداً لها: على راحتيك ألاقي الوطن وأنثر عمرا وذكرى زمن وتغسلني في الضحى غيمة لتغري جفوني بطعم الوسن فتحضن عيني روابي (شهار) ويغفو بزندي فرع أغن فحينا أُحلق فوق الذرا وحينا إلى السفح روحي تحن لكن رحيل ابنه عبدالرحمن - رحمه الله - على حين غرة ألقى عليه وحياً من الشعر لم يستطع التفلت منه واستجاب لهول الفجيعة وألم الفراق وراح يرثيه وصورة ابنه تتماها بين القوافي: أتى خُلْسة صَمْته يرتدي أتاك بوجه عبوس ردي وحين أتى لم يكن صائما فأفطر عصرا بلا موعد وكُنْتَ اشتهاء أنيق المذاق وطعمَ شبابٍ شهي ندي فكيف ألوم انكساري عليه وحزني إذا ما انتهى يبتدي مارس أديبنا إبراهيم مفتاح غير فن أدبي فهو الشاعر الذي لقصيده مذاق الروعة والمتعة وهو الكاتب الذي خلد ذكر فرسان وطبيعتها وناسها وقراها وشعرها وأساطيرها حتى أضحى عنواناً لها بل إن رواياته كانت مسرحاً لها لذلك أخرجت أنامله جمهرة من المؤلفات، منها التاريخي والجغرافي والأدب الشعبي والروائي مثل: (فرسان.. الناس.. البحر والتاريخ) و(مقامات فرسانية) و(أدب الأشجار في جزيرة فرسان) (فرسان بين الجيولوجيا والتاريخ) و(الشعر الشعبي الفرساني ومناسباته) و(قرية القصار) و(الصنجار) و(الصنبوق) و(أم الصبيان) ولا شك أن كل هذه الأعمال الأدبية والتاريخية قد أغرت جملة من الدارسين وعدد من النقاد كان من أبرزهم الأساتذة: حسين سهيل وحجاب الحازمي وسعد البواردي عبدالله الحيدري وعمر زيلع وأسامة البحيري وعزت جاد وعلي مكي وصالح الشحري ومحمد المبارك وآخرين. على منصات التتويج: إذا كان أديبنا وشاعرنا قامة سامقة ترفرف إبداعاً زاخراً بالجمال في أقصى الجنوب فلا بد أن يكون من المحتفين به من لدن مؤسساتنا الثقافية، نظير ما قدم لساحتنا الثقافية على مدى عقود طويلة، ومن تلك الجوائز التي حققها جائزة الشعر الفصيح من جائزة أبها الثقافية أما منصات التكريم التي أضاءها: تكريمه من قبل أهالي فرسان ومن مركز الملك فهد الثقافي عدة مرات وكرم من نادي جازان الأدبي ومن اثنينية عبدالمقصود خوجه كما كرم في ملتقى اللغة العربية بجازان وكذلك من نادي جدة الأدبي ومن جامعة جازان إضافة لاختياره الشخصية الثقافية بمنطقة جازان، هذا وقد مثّل مفتاح المملكة في عدد من المهرجانات العربية منها مصر والجزائر والشارقة إضافة إلى مهرجان الجنادرية ناهيك عن الأندية الأدبية التي غرد على مسارح العديد منها. ويبقى شاعرنا الكبير الأستاذ إبراهيم مفتاح نورساً محلقاً في دوحة الشعر ينتقي قوافيه العذبة ويهمي بها على عشاق القصيدة الحديثة. محمد باوزير