قلبت الإنترنت موازين حياتنا الفكرية والاجتماعية والنفسية، ولم يكن يدور بأذهاننا يوماً أننا نستطيع تجاوز ما لا يمكن تجاوزه كأدباء وكتّاب وقراء أيضاً، وذلك من ناحية حرية الكتابة وإبداء الرأي، وأصبحت الحياة عكسية، فالانطلاق من الافتراضية حتى الواقعية، ومع مرور الزمن والتعود على وجود هذه النافذة التي سمحت للعالم بالنفاذ إلينا، وبنظرة سريعة على التغيرات التي طرأت على المجتمع والذي عاش سنوات طويلة محاطاً بتابوهات محرمة جداً، وقضى جل حياته بعيداً عن الاحتكاك بالآخر بشكل مباشر، يلحظ أنه كسر الكثير من التابوهات التي أحاطت به، حيث تنامي الوعي لديه مع مرور الوقت، بفضل تواصل أفراد المجتمع مع بعضهم البعض، ومع العالم الخارجي. والأكيد أن لكل منا قصة عن الشجاعة والخوف، الحب والخسران، التضحية والأنانية يمكن أن نرويها بجملة أو في كتاب، وبطبيعتنا الإنسانية قد ننظر للعالم بأنه سيئ التنظيم وأينما ذهبنا وجدنا العوائق، وعالم الإنترنت كثف الحضور الإنساني بجميع ثقافاته وعلمه وتجاربه، ونقل لنا كل ما يدور في الضفة الأخرى من العالم، فهي ميدان يتسع لكل لون فريد لم يأت بعد، لتتوحد مشاعر البشر وحكاياتهم وتتواصل عبر لغة الإنترنت التي ألغت جميع المسافات وتخطت حواجز الزمن لننظر لبعضنا كماضٍ يمتد عبره مضارع الزمن ويحكمه أمر الواقع الحالي. إن ميادين الإنترنت ينبغي أن تؤخذ على أساس أنها تسهيلات يمكن أن يظهر منها المواهب والخبرات لتجسيد الإمكانات وتعزيز الهوية والفكر، ولكن عند مقارنتي بين المواقع العربية والمواقع الأجنبية أصاب بالذهول والحسرة، فعند بحثي عن أي معلومة وبالذات العلمية في اللغة العربية لا أجد معلومات وافية لما أريد، وبمجرد تحولي للغة الإنجليزية أجد بحراً من المعلومات عن أي موضوع أريده، ثقافة نشر المعلومة وتعزيز وجودها في الإنترنت لتكون متاحة لكل قارئ ومستفيد وباحث هي واحدة من أقوى آليات التغيير في العالم، وحيث إن هذا التمازج الثقافي عبر الإنترنت يعمد إلى ترسيخ ثقافة وقيم البلد المصدر للمعلومة، وهذا يؤدي بدوره إلى ما سماه عبد النور إدريس -وهو باحث من المغرب- ب"الصدمة الإلكترونية"؛ وتعني التحول من الانبهار بالواقع الافتراضي للبلد المصدّر للمعلومة إلى الاصطدام بالواقع الفعلي للبلد، فمن الطبيعي أن تتكامل الحضارات أو تتداخل، ومن البدهي أن تتحد المعارف، ولكن غير الطبيعي أن نسير ونحن مجتمعات بلا حصانة ثقافية، وبلا تجربة وسط هذا العالم الافتراضي الذي يشكل محوراً لولادة ثقافة إنترنتية مرهون بقاؤها بمدى تكيفها الخاضع لبنود الاستمرارية عبر فضائها الشاسع الممتد.