كنا نسمع في بداية التسعينيات عن كُتبي شهير معني بالمخطوطات ونوادر الكتب، اسمه الشيخ الدكتور عبدالعزيز المشعل، وفتح مكتبة للنوادر وأغلقت بعد مدة وجيزة مما زاد من شهرته، ثم انقطع تداول أخباره في حقل الكتب، وفي عام 2015 تواصل معي، وفرحت بتواصله، وقال لي إنه نظم ثروته المالية واستثماراته في شركة عائلية مغلقة، وتفرغ للسفر والكتب ولقاء الأصدقاء، ثم توطدت العلاقة بيننا حتى وفاته -رحمه الله-. يحمل عبدالعزيز المشعل معايير الشخصيات التاريخية الخالدة، ولكن سمة التواضع فيه وإنكار الذات، وبذله للعلم والجاه بسخاء، والتسامي بالذات عن منغصات الحياة، جعله يبتعد عن الشهرة، في زمن يزدهر بمئات من الباهتين الراغبين في الخلود. وتكمن أسرار خلوده في قدرته على تشخيص أي سوق يدخله، ثم يحتل مراكز متقدمة فيه إذا قرر دخوله، فعندما كان في السوق الديني قبيل ظهور زمن الصحوة، كان من أبرز تلاميذ الشيخ عبدالعزيز بن باز، وقد امتدحه الأخير، كما كان مقدرًا عند الشيخ عبدالله بن حميد، وكثير من علماء ذلك الجيل. ودخل سوق المخطوطات والكتب النادرة وحقق معرفة كبيرة بها، وامتلك كثيرًا منها، وذاع اسمه بين خبراء المخطوطات ونوادر الكتب في السعودية ومصر والشام وتركيا وغيرها، وأصبح أحد رموز الكتبيين في العالم العربي. ودخل سوق الأسهم مبكرًا، وحقق فيه ثروة كبيرة، وتجنب خسائر بخروجه من السوق قبل انهياره عام 2006، بقدرته على قراءة المشهد، ودخل استثمارات أخرى بحذر. وإذا كان من أبرز سمات شخصيته أنه لا يدخل إلا السوق التي يضمن أن يحقق فيها مراكز عليا أو لا يدخلها، فإن هذا التفكير العميق الذي سار فيه ببساطة وتلقائية، يمثل أحد أهم قوانين النجاح. يذكر جاك ويلش في مذكراته، أنه عندما تولى قيادة شركة جنرال إلكتريك كان لديها مئات من خطوط الإنتاج، من مكنسة منزلية حتى مراوح طائرات، ثم اتخذ قرارا أن أي منتج لا يحقق المركز الأول أو الثاني في العالم يغلق فورًا، مما زاد من تركيز الشركة على منتجاتها المتميزة، وحقق لها عوائد مالية كبيرة، فدخل جاك ويلش التاريخ بهذا التفكير. وتؤكد سيرة مالكوم إكس هذا القانون الاجتماعي أيضًا، فعندما كان يعيش في حي هارلم في مانهاتن بنيويورك، دخل مع العصابات وصار رئيسهم، ثم قبض عليه ودخل السجن، فكان زعيم المساجين، ثم خرج وتاب وانضم إلى جماعة "أمة الإسلام"، ترقى بسرعة، حتى أصبح نائب الزعيم الروحي أليجا محمد، وعندما حج وعرف أن الإسلام للسود والبيض، وليس الإسلام للسود والمسيحية للبيض، كما علموه في أميركا، انقلب على المنظومة، وحقق شهرة سريعة في نشر الإسلام الصحيح، فانتهت قصته بمقتله وهو يلقي محاضرة، فدخل التاريخ بقدراته على التنقل بسرعة ورؤية ما لا يراه الآخرون. ورغم أن المشعل دخل أسواق متناقضة ومتباعدة، إلا أنه لم يتخلَ عن شيئين رئيسين في شخصيته، وهما: ابتسامته الدائمة، وحسن العلاقة مع كل من عرفه، مهما طال أمد العلاقة، وأصبحت من هوية شخصيته الأساسية، فأهل التدين يعتبرونه منهم، وأهل الأسهم والمال يعتبرونه منهم، وأهل الكتب يعتبرونه منهم، وحضوره أساسي ورائد في كل سوق. إن عبدالعزيز المشعل يحمل في تفكيره هذا البعد العالمي، ويرى ما لا يراه الآخرون، ولكن البيئة المحلية لا تمتلك أدوات التقدير غالبًا، وتشتت الأضواء الباهتة انتباهها، فيضيع الكبار وسط ضجيج الصغار.