غيب خفي وحاجة ملحة كنزعة وجودية لا تندثر، هدوء مؤقت في خضم عاصفة الواقع المستمر، إنه التمايز الفج بين واقع الأحلام وواقع حياة اليقظة، كامن في سردية اللغة والقصص، يقترب ليبتعد، نسميه شيئا ما أو حالة وصف مكان أو حدث، يراوغ في إدراك الواقع، ويعوض نقصنا الذاتي كمالاً متوهماً. يبدأ كقول: (كنت دمعة في الهواء.. كنت نجماً آفلاً.. كنت كلمة وسط الحروف.. كنت كتاباً) مقطع من قصيدة ويلزية. بعبارة أخرى (إذا رأينا الواقع خارجنا ناقصاً مختلاً مؤلماً فررنا منه إلى الخيال داخل أذهاننا فاعتضنا من الحقيقة حلماً) سلامة موسى. لماذا نحلم بالأحلام؟ وهل للأحلام القدرة النجاعة في معالجة الذكريات والمشاعر؟ وهل نحن قادرون على استقراء الأحداث في منطقة فقدان الزمن؟ لم تكن الأحلام في حقيقتها إلا حالة مخالفة لليقظة فهي لا تنطوي على حالة ملموسة من الوجود يمكن إثباتها من خلال الدليل، إنما هي دليل على وجود تفكك يعتري حقيقة حياتنا. فبرغم قدرة الفيزيائيين على حل واكتشاف معادلات الكون، إلا أنهم عاجزون عن تجسيد نماذج كونية لهذا العالم. هكذا هم الحلم يتشظى في غموض حياتنا ويرسمنا خيالات في مضمار التجارب اللامتناهية للحياة. فما عجز عنه الواقع يجسده الأدب في نماذجه الحالمة الخيالية ليترك لنا ذاك الشعور بقول: (قيام الحلم يلغي الحاضر). لقد خلق لنا أدب الأحلام قواعد مشتركة بين اللغة والسرد، والسبب والنتيجة، وكان الكاتب يبحث عن ذريعة ليسقط عليها الواقع بحجة أن كل ما يحدث في كتاباته ممكن لأنه حلم. إنه لغة سريالية مفككة بشكل مقصود، وهذا بالضبط ما حدث لنا عندما علقت بأذهاننا قصة (أليس في بلاد العجائب) للكاتب كارول كان صراعنا الحقيقي لفهم المنطق أين هو؟ هل هو في أضغاث الأحلام؟ أم أن منطق الأحلام رؤى وتأملات وجودية؟ قد أظهرت لنا أليس في أحلامها التناقض الغريب بين عالم الحلم والواقع، في وقت لم تعرف طفولتنا الفرق بينهما إنما كنا نعيش لحظة سحرية مدهشة وأمنياتنا القلبية ليتها تحدث لنا؟! إن الحلم الأدبي هو قصة الحلم ذاتها الذي نعجز عن ترتيب معطياته وتوضيح مبرراته، ويبقى سحر الحلم أن نتقبله كما هو وهذا ما يؤكده ألبرتو مانغويل بقوله: (أحياناً تروى القصة حلماً بدافع وحيد وهو أن نستنطق طبيعة ما ندعوه الواقع) كما استنطق ابن شهيد الأندلسي واقعه في رسالته المشهورة: (التوابع والزوابع) تلك القصة الخيالية التي تحكي رحلة في عالم الجن يلتقى البطل من خلالها بشياطين الكتّاب والشعراء مثل امرئ القيس والمتنبي وأبو نواس فيتحاور معهم بأسلوب فكاهي متندر بخصومه. المدهش في الأمر قدرة ابن شهيد في عرض تجربته الخيالية الحالمة بطريقة فلسفية علمية. وهذا ما يؤكد أن الحلم إنما هو نتيجة للتجارب والمشاعر في حالة اليقظة، ولولا أحلام هؤلاء الكتّاب والفلاسفة لما استطعنا أن نحلق في مدن الخيال والأحلام، فالحلم ما هو إلا وسيلة لإيجاد المستقبل وفهمه. وغالباً ما تصلح الأحلام لدّس المستحيل في نسيج الحياة اليومية لتقبل الواقع والعيش قي تفاصيله، فهل ترك لنا ميخائيل نعيمة في مذكرات الأرقش من حيلة سوى أن نعتنق طقسه الصوفي ونرتحل من خلال رؤاه الفلسفية ولسان حالنا ما ذاك فكري؟! فالمسكوت عنه حلم الواقع، فرأى الأرقش حلمه يتجسد بها، إنها هي تلك حقيقته التي أنكرها في قرارة ذاته، فتأتي إليه زائرة في لياليه الموحشة بجرحها الغائر وحزنها العميق وسكونها المرعب. اتسم الأدب الإغريقي بالمجازفة والحرية والجرأة في وصف الناس والآلهة ولذلك كان وما يزال مصدر الإلهام والوحي وبعث روح التجديد في الأدب، وفي هذا الوسط الحر نشأ أدب نزيه خالٍ من القيود، من هنا كان حلم أفلاطون (المدينة الفاضلة) حلم المثل الأعلى للحكومات والمجتمع وإيجاد نظام يضمن للناس السعادة. إن ما يدهشنا في الأحلام أنها تأتي نقيضة للوصف السردي التخيلي، بمعنى أن تكون كالخرافة أو الفانتازيا وكأنها عبور لعالم آخر، فهناك حقيقة ليست واقعية أو بكلمات دانتي (أخطاء زائفة) هكذا هو الحلم وهم الكلمات فيه يوازي وهم العقل الذي يحلم.