قبل عدة أعوام زرت سجن "الكتراز" الشهير الذي يقع على جزيرة قريبة من مدينة سان فرانسيسكو، كنت أرتدي سماعة يشرح من خلالها أحد السجناء السابقين تفاصيل حياتهم اليومية، وصلنا إلى زنزانة الحبس الانفرادي، المكان الذي يعتبر كابوساً وسط كابوس، يقول السجين إن زملاءه طوروا أسلوباً يمكنهم من تحاشي الجنون في حال وضعوا في الحبس الانفرادي؛ كانوا يلجؤون للخيال، يضع السجين تلفازاً وهمياً وسط الزنزانة، ويبدأ في متابعة برامج من نسج مخيلته وهكذا يستطيع التغلب على قسوة الظلام والوحشة. الخيال هو إحدى أجمل المنح الإلهية للجنس البشري، وله أفضال كبيرة على حياتنا؛ إذ إن جميع القطع الفنية التي أضافت للحياة طيفاً جميلاً وخففت من قسوتها يعود الفضل فيها للخيال؛ الموسيقى، الروايات، المنحوتات، اللوحات الفنية، الشعر والمسرحيات، الأفلام، المسلسلات، الابتكارات، فنون المعمار، كلها نتاج عظمة عقل الإنسان المبدع والخلاق. الخيال ملازم للإنسان منذ بدء الخليقة، فهو أحد الامتيازات التي مُنحت له مع العقل، جداريات "فن الكهوف" عمرها يقارب العشرين ألف سنة، نحت عليها البشر رسومات لحيواناتهم وأحياناً أشكالاً متخيلة. ملحمة جلجامش كُتبت قبل نحو 4 آلاف سنة، وإبداعات الفراعنة بكل أساطيرها المثيرة لا تزال تعرض في المتاحف. كل هذه الأعمال الخالدة التي أضافت بعداً جميلاً لتاريخ البشرية كان الخيال يقف خلفها. فكرة الخيال بحد ذاتها مذهلة، فهو عبارة عن تسلل وتلصص يكسران الحدود الصارمة للواقع، يأخذانك إلى عالم رحب لا حدود فيه ولا قيود، كل شيء من الممكن أن يتحقق في ذلك العالم، والرائع أنك تستطيع أن تجلب معك جزءاً من ذلك العالم الجميل ليتذوقه الآخرون. المشكلة أن هذا النبع من الإبداع ولأول مرة في التاريخ الإنساني يتعرض لتهديد كبير، فمرة أخرى التكنولوجيا التي أحدثت هزة في مألوف حياتنا أصبحت تنافس المخيلة البشرية، شيئاً فشيئاً تأخذ التقنية من الإنسان أدواته، في مقابل أن تمنحه الراحة ورغد الحياة وسهولتها، لكنها للأسف لا تأخذ عنه الأحمال الصعبة فقط، بل أيضاً تسرق مهاراته ومواهبه لتقوم بكل شيء عنه تقريباً. الحياة الجديدة مع الذكاء الاصطناعي وثورة التواصل الاجتماعي وملهياتها سرقت حصة كبيرة من الإبداع البشري وستواصل حصد المزيد، الذكاء الاصطناعي أصبح يلحن المقطوعات الموسيقية، ويكتب الروايات والقصائد ويرسم ويقوم بكل شيء تقريباً. الأجيال الجديدة والمقبلة تتفتح على شكل مختلف من الحياة؛ ستجد أن الكثير من أدوارها تقوم به الآلة، وإذا لم تعمل في خط موازٍ ينافس ما تقدمه التكنولوجيا، فسيصبح الإنسان مجرد كتلة بلهاء لا تتمتع بأي شكل من أشكال الإبداع.