حينما تفتح إحدى روايات غازي القصيبي تكون قد وقعت بالفعل في الأسر! هيئ نفسك، هيئ روحك، هيئ عينيك لجاذبية عظيمة غامضة تأسرك داخل قمقمها، كل شيء بعد الآن لن يكون إلا متعلقًا بالرواية، منها وعنها ولها وبها! ماذا حدث وما يحدث وما سوف يحدث ولماذا يحدث، لا تكاد تطالعك الصفحة الأولى حتى تذهل عن نفسك، وتمسي وتصبح دائرًا في فلكها، كعقرب ساعة نافر حبيس بين ثوانيها ودقائقها، تأبى أن تطلقه حرًا ويجهل هو طريق الخروج أو ينساه بعد حين. شقة الحرية هي الرواية المتكاملة كما قال الكتاب، كما نصّ الأدباء في كل عصر وزمان واتفقوا على هيكلها وشكلها ومضمونها، هي ذورة النضج الأدبي الذي يحلم كل كاتب بالوصول إليه يومًا منذ يبدأ متعثرًا مترددًا حائرًا يخط أولى قصصه وأول حرف من يراعه الأدبي، لا يمكن أن يتمكن كاتب من إبداع تحفة أدبية كتلك دون أن يكون قد خاض غمار قصص شتى ونصوص عدة ومحاولات أولى لا حصر لها، لكن النتيجة تستحق، يعلم الله أنها تستحق! كعادته دائمًا، لقد سحرني الأستاذ، وحُبست حرفيًا بين كلماته وشخصياته ومضي أيامهم، صرتُ لا أرى أمامي سواهم ولا يقلق فكري إلا مصائرهم، ولا يدق في قلبي إلا صدى مشاعرهم المتفاوتة المحمومة. يسافر فؤاد من البحرين إلى القاهرة ليبدأ دراسته في كلية الحقوق، فؤاد الذي لم يجاوز عامه السادس عشر يحلم بسماء القاهرة وكليته والصفوف والكتب والدراسة منذ الآن، يحلم بالصحبة التي سبقته إلى القاهرة، الشباب البحريني الذي تعرفهم بين أزقة المنامة وتدرج معهم في سنوات الدراسة، قاسم بعقله اللامع، يعقوب بشخصيته الثورية، وعبدالكريم ابن الشيخ الهادئ منظم الأفكار والعواطف، أنّى له أن يعلم ما يخبئه له القدر؟! أنى له أن يعرف أن جوانب عديدة ما عرفها قط من شخصه سوف تتكشف له هناك؟، وبدلًا من أن يعثر على الدراسة والصحبة تفتحت دونه كل الطرق هناك، الصحبة والدراسة والحب وشتات الأفكار والأحزاب العربية التي تعددت أسماؤها، ويتمكن الأصدقاء من الانتقال لشقة خاصة بهم، ويتفقون على أن يُطلق عليها اسم شقة الحرية. وفي زمن عاش فيه طه حسين وعباس العقاد ونجيب محفوظ وعبد الحليم حافظ وعبدالوهاب في الوقت ذاته، عرفهم فؤاد والتقى بهم شخصيًا، يحاورهم ويستمتع باختلاف أشخاصهم وبنكاتهم الحاضرة في كل موقف! والشباب الرباعي البحريني تتسع دائرتهم، ويصبح هناك نشأت ابن الباشا المصري والصديق المقرب لقاسم، ويصبح هناك ماجد السعودي القادم من عنيزة لدراسة الطب، ويصبح عبدالرؤوف ابن الفلاح البسيط القادم من البحيرة للقاهرة في غربة لا تقل في لوعتها ووحدتها عن وحدة فؤاد، ويجتمع الثنائي الأخير في محبة عظيمة للأدب، وتنتثر قصصهما القصيرة بين صفحات الرواية، مُستقاة كلها من حياتهما، هذه تحكي عن الغَوّاص البحريني والبحار وليال السمار والأهازيج، وتلك تحكي عن أراضي الفلاح المصري والطفل المتجول بين عربات الأتوبيس وابنة الجيران ذات العينين العسليتين المكتحلتين، ويشتركان في نشر مجموعة قصصية باسمهما ليُذاع اسميهما ويُتاح لهما لقاء عباقرة الأدب وقتها. أليس غريبًا أن تجد نفسك في شخصيات رواية قديمة لكاتب قضى نحبه منذ زمن؟ وفي وقت غير وقتك الحالي ومع أناس تضمهم الآن المقابر أو سكارى في شيخوخة الهرم وذبوله، ومع ذلك تُحس أنك أنت هم وأنهم هم أنت؟ أنا فواد الذي لا يكاد يستقر على رأي أو تميزه شخصية، أنا يعقوب الساخط الثائر الغاضب المكلوم لحال أمة العرب، أنا عبدالكريم الهادئ اللا مبالي، أنا قاسم الباحث عن الحقيقة وسط الضجيج ومعمعة الثورات، ثم أنا عبدالرؤوف الذي يجد في الإسلام حلٌّ لكل شيء ومخرجًا لصغار الأمور وكبيرها! وليس أمتع ما في الرواية القصص التي تجيء وتذهب، والحب الذي يعرض للفتية ويرحل تاركًا خلفه شيء من الأريج والذكرى وبعض المرارة، ليس أمتع من الغوص في جوّ المذاكرة والامتحانات والعلاقة التي تتوطد وتتطور بين الصداقات الشبابية، لكن الأفخم من هؤلاء هي اللغة السلسة الانسيابية الجميلة والتي تترقرق بين الصفحات تحكي بعذوبة تكاد تذوب على لسانك. وتعدو الأيام لتغدو منتمية بعدئذ إلى عالم الذكريات الحافل، المرير، عالم يثير الشجن والأسى، وترقب الطفل المراهق ينمو ويتمخض عنه الرجل الذي سيكون، ويلفظ الأفكار التي لطالما اعتنقها صبيًا وتتبدى له الأمور أوضح الآن، أمور واقعية لا تجمّلها هالاتها الوردية التي كانت ولا تلطف من وقع سياطها الأحلام الصبيانية التي وُئدت، ويتجول فؤاد في القاهرة وكل صاحب قد مضى في طريق مختلف، كلهم يعلم موضع قدميه، كلهم اتضحت له معالم المستقبل المجهول، أما هو فأين هو؟، يتجول فؤاد في أزقة القاهرة للمرة الأخيرة وتلوح له أشباح الماضي تسخر من تردده وحيرته وجهله بالذي سيكون وبالذي يريد أن يكونه ويريد أن يحبه ويريد أن يصيره، يقول له عبد الرؤوف بثقة "لن تلتفت إلا إلى أدبك، وقريبًا أسمع عن الروائي البحيرني الشهير في نيويورك " فيضحك فؤاد ويجيبه "مغشوش فيني"! وأنظر لآخر تاريخ ورد في الحكاية 1961، وأفكر رغمًا عني "آه لا شك أن فؤاد عجوز الآن، أو أنه قد رحل عنّا، تُرى هل لقي الإجابة؟ تُرى هل وصل إلى وطن تأنس فيه روحه؟ تُرى هل حقق الرضا؟! هذه الدرجة التي تُمسي كل يوم حلمًا أبعد فأبعد، كأننا موعودون بالنار أبدا، نارٌ تأكلنا إرهاقًا وتفكيرًا في شبابنا وتلفظنا ذكريات وندم ووحدة في هرمنا"! غير أن شقة الحرية لا ترتبط بزمن، أو بتاريخ أو بقصة بعينها أو حتى بمدينة بذاتها، نعم هي قصةٌ للإنسان، تحكي له فيها عنه وعن رحلته الطويلة التي لا تنتهي ولا تكف الطرق الفرعية عن النمو على جانبيها إلا حين تنتهي الرحلة نفسها ويُطوى عمر الإنسان الذي كان. قامت قناة إم بي سي بتحويل الرواية عام 1996 إلى مسلسل تلفزيوني، من إخراج مجدي أبو عميرة ومن سناريو وحوار محمود الليثي، وقام بتمثيل دور الشباب الأربعة أنور أحمد وخالد سامي وعبد المحسن النمر وجمعان الرويعي فيما اشترك عدد من ممثلي مصر كالفنانة شيرين سيف النصر والفنان محمد رياض.