مما لا شك فيه أنّ قارة إفريقيا بما تمتلكه من قدرات ستشكّل قوة اقتصاديّة وسياسيّة قادمة، ويمكنها إذا أخذت المسار الصحيح أن تأخذ دورًا محوريّا في تشكيل نظام عالمي جديد وتلعب فيه دورًا رائدًا فيه. ومن الواضح أنّه مع نمو الاقتصاد الإفريقي نمت قوته السياسيّة إذ يوجد في القارة الآن عدد من الدول القويّة والمؤثرة، مثل نيجيريا، وجنوب إفريقيا، وإثيوبيا التي بدأت تأخذ دورًا متزايد الأهميّة في الشؤون العالميّة مع بعض أشكال تحدّي الهيمنة التقليديّة للولايات المتحدة وأوروبا. ولكنّ هل هذا يكفي؟ وهل ما نشاهده من مظاهر تمرّد شعبي وانقلابات على نفوذ فرنسا والغرب في بعض الدول الإفريقيّة يكفي للقول ببداية الانطلاق والتحرّر الإفريقي؟ ماذا عن بقيّة الدول الإفريقيّة (عدد الدول في القارة قرابة 54) التي لازالت تعالج أوجاعها وتترقّب آمالها؟ وإذا كان الأميركيّون قد أهملوا القارة السمراء ردحاً من الزمن، إلا أن الأوروبيّين ظلّوا معنيّين بها كمصدر موارد ومنطقة نفوذ. وقد قامت فرنسا بتمثيل المصالح الأوروبيّة بشكل غارق في الاعتداد بالنفس بحيث لم تستوعب فكرة تكييف سياساتها مع الحقائق المتغيرة في إفريقيا والعالم. فباريس كما يبدو لم تتعلّم الدرس، وهي اليوم مع ظهيرها الأميركي تفقد النيجر كآخر مراكز تموضعها (باسم مكافحة الإرهاب) بعد فقدانها وزنها في مالي وبوركينا فاسو وغينيا. وإشكاليّة فرنسا أنها عاملت دول إفريقيا بالوعود التي لا تنجز، وعوضًا عن دعم التنمية الإفريقيّة أجرت ما يزيد على 20 تدخلاً في الأنظمة السياسيّة بين الأعوام 1961-1992، ونحو 17 مرة خلال العوام 1992 -2017. ولكنّ العالم يتغيّر، وموازين القوى تتأرجح، والقلق الفرنسي يتزايد، وهو ما تكشفه حوالي 18 زيارة قام بها الرئيس الفرنسي ماكرون إلى إفريقيا منذ فترة رئاسته الأولى. على الجانب الآخر بدأت الصين مدّ نفوذها في القارة الإفريقيّة لتصبح اليوم أكبر شريك اقتصادي لدول القارة. وقد دخلت السياسة الصينيّة من البوابة الإفريقيّة بمفتاح الاقتصاد والتنمية، ودعم البنى التحتيّة وتقديم القروض شبه المجانيّة. وتشير التقارير إلى النمو المذهل للتجارة بين الصين وإفريقيا التي وصلت إلى 254.3 مليار دولار في 2021، بزيادة 35.3 بالمئة على أساس سنوي. أمّا روسيا فمنذ سنوات وهي تسعى إلى إقصاء فرنسا والغرب من النيجر وبقيّة دول الساحل الإفريقي. وقدّمت موسكو لبعض دول القارة إعفاءات من القروض، وتسهيلات لاستيراد القمح، وعزّزت من الحضور العسكري لمجموعة "فاغنر"، وصدّرت السلاح بأسعار منافسة وبلا قيود. وأخيراً استضافت مدينة سانت بطرسبرج يومي 27 / 28 يوليو 2023، القمة الثانية الإفريقيّة - الروسيّة التي شاركت فيها وفود رسميّة من 48 دولة إفريقيّة تحت مسمى «القمة الاقتصاديّة والإنسانيّة الروسيّة الإفريقيّة». والسؤال هنا، هل بدأت إفريقيا يقظتها أم أنها ستكون أرجوحة في نظام دولي يترنّح؟ مسارات قال ومضى نعم للتاريخ كلمة ولكنّه يقولها بعد فوات الأوان.