يظل المكان حاضرا وبقوة في أغلب كتابات الأدباء والشعراء وقد يصل إلى مرحلة (البطل) الذي يتلمسه المتلقي في ثنايا النص. وقد وجد المكان منذ القصيدة الجاهلية فوصف الشاعر الطلل والوادي والنقوش التي تزين بعض الآطام والصخور. وفي العصر الحديث جاء المكان بأدق التفاصيل لا سيما في السير الذاتية والرواية ولا مشاحة في ذلك، لكن أن تُوقِف كتبا للمكان فهذا لعمري عشق متجذر عند المؤلف، ولك أن تعود إلى كتابات نزار قباني وعبدالرحمن منيف في (سيرة مدينة)، وغازي القصيبي عبر كتابه (سيرة شعرية) وبعض رواياته، وكذلك عبدالعزيز المقالح من خلال كتابه (كتاب المدن) وثمة كتابات كثر غيرها لا سيما في الرواية العربية. - 1 - أسوق هذه المقدمة وأنا اقرأ كتاب الأديب والإعلامي الأستاذ عدنان صعيدي والموسوم ب (سليمانية مكة... وحكايات من زمن لن يعود) وهو في حقيقته ضرب من السيرة الذاتية للمكان وشخوصه؛ أكثر من أن يرصد المؤلف فيه دقائق حياته وخفايا أيامه ولياله. لقد عشق الكاتب عدنان المكان حد الشغف وأضحى أسيرا له وحق له ذلك؛ لأنه مسكون بعراقة تلك البيوت المكية والحارات العتيقة والأزقة الضيقة والشخصيات المكية المهذبة ذات الحديث العذب، فنسج لها الحكايات الماتعة والقصص التي ما زالت ساكنة في تلافيف ذاكرته. إنك -أيها القارئ- أمام رجل حكاء حفظت ذاكرته القوية المكان بشخصياته ورموزه وعاداته، فأبرز لك حارة السليمانية بكل مهارة وتفوق فكأنك تشاهد فيلما سينمائيا لهذا الحي، ناهيك أن شخصياته جلها من البسطاء الذين ينتمون إلى الأخلاق المكية وينحدرون من بيوتات قامت على حسن التعامل مع الآخر واستولت عليهم الطيبة وحسن المعشر، فهذا العمدة عبدالقادر جانشاه والفنان حسن جاوه والمطبقاني عبدالله سندي والحلواني صدقة أبو نار والمدرس شرف جمال والتمرجي أحمد جمال والكبابجي عبدالله الحربي والمُطَهِر حسن كدرجان وغيرهم من نماذج السليمانية المضيئة الذين متحوا من جلال المكان (مكة) خلقهم القويم ونبذوا كل ما يعيب رجولتهم، وتأتي قصة بكاء والد المؤلف الشيخ محمد صعيدي حين علم بوفاة صديقه الودود السيد أسعد تونسي ذلك الرجل الذي يفيض ذوقا وأدبا وكرما لدرجة أنه كان يتبرع بجزء من (دكانه) لمحمد صعيدي أيام موسم الحج دون مقابل ليستفيد من فترة الموسم فيقدم درسا باذخا في الصداقة وحسن الجيرة، وكيف كان أهل مكة يحفظون الوفاء ويتعاهدون على التمسك به. * 2 - ناهيك عن وقوف الصعيدي على أرض أحبها فتجلى في الكتابة عنها فهاهي: مقبرة المعلاة وسوق المعلاة ودكة الصلاة وطريق الخَريق وبستان عبدالله باحمدين الذي جعل جزءا منه محطة.