ظلّت العديد من العادات والمفاهيم ردحاً من الزمن مسلمات لا يمكن تغييرها أو مجرد الخوض فيها، وتبع ذلك اعتقاد راسخ بأنه يجب محاربة كل شيء جديد يظهر بما لا يتوافق مع تلك المفاهيم، مما عطّل عملية الاستفادة من أي شيء جديد يطرأ لزمن طويل، وجاء العلم وانتشار المعرفة والانفتاح على العالم فقضى مع مرور الوقت على ذلك، فبات ما كان بالأمس محظوراً مباحاً في عالم اليوم، وذهبت تلك المفاهيم الخاطئة والعادات التي وقفت سداً منيعاً للتقدم في كافة مناحي الحياة إلى غير رجعة في زماننا هذا، ومما ساهم وعجّل في أفول تلك المفاهيم والعادات واندثارها نشر العلم والمعرفة وتطوير المناهج بما يتوافق مع عالم اليوم فيما لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية، وكذلك التثقيف المستمر عبر وسائل الإعلام على مختلف أنواعها المسموعة والمقروءة والمرئية، فأصبح الجميع يلبس ما يحلوا له، وتم السماح للمرأة بقيادة السيارات وحضور المباريات، وافتتحت صالات السينما وبات يحضرها الجميع وفق ضوابط محددة، وعم الانفتاح كافة مناحي الحياة وفق ضوابط الشريعة الإسلامية وتعليماتها. حاجة العمل ومن الأمثلة على رفض التحديث والتجديد ما صاحب فرض اللباس العسكري في بداياته، إذ لم يكن الجنود عند بدايات التأسيس يعرفون اللباس العسكري كما هو عليه الآن، فقد كانت أول قوة نظامية للجنود تعرف باسم الهجانة، بدأ تشكيلها في الحجاز وكان مقرها في قصر السقاف، وقد اكتسبت هذا الاسم من وسيلة المواصلات التي تعتمد عليها في ذلك الوقت وهي الهجن، حيث تم فرض لبس بدلة وبنطلون مع الشماغ والعقال، وقد قوبل هذا الأمر بالممانعة، وتعدى ذلك إلى استفتاء العلماء في التقيد بهذا اللباس الذي يعدونه من لباس الكفار والتشبه بهم، إلاّ أنه سرعان ما تعود عليه الجنود وعرفوا فوائده بعد أن اتضح لهم بأنه لا يتعارض مع تعاليم الدين، بل هو تنظيم عسكري فرضته حاجة العمل وطبيعته، وسرعان ما تم قبول هذا اللبس العسكري واستمر الجميع عليه إلى هذا اليوم، وكذلك الحال للباس الرسمي الذي كان الثوب والشماغ أو الغترة والعقال والمشلح أو البشت، وكان الجميع يتقيد بذلك ولا يحيد عنه ويعاب من يخالف ذلك وربما ينتقص منه أمام الرجال، ولو نظرت إلى صورة التقطت في الخمسينات الهجرية إلى التسعينات الهجرية لوجدت الجميع متقيد بذلك، لكن بعد ذلك بات البشت والمشلح لا يلبس إلاّ في المناسبات الرسمية، كما أصبح الشباب لا يلبسون حتى الشماغ، وبات البعض يلبسون البنطال والقمصان، ومن ثم أصبح اللباس حرية شخصية والجميع يلبس ما يحلو له بشرط أن يكون ساتراً للعورة. توثيق اللحظات وعند ظهور التصوير في بلادنا قديماً واجه استنكاراً من فئة كبيرة من الناس والتي كان جلها من كبار السن، إذ كان هذا أمراً غير معتاد، لذلك رفض الكثيرون منهم التقاط صورة له، وحتى بعد أن تم إصدار وثائق حفيظة النفوس من قبل الأحوال المدنية عند بداياتها، كان البعض يرفض التصوير من أجل أن تلصق الصورة في حفيظة نفوسه والتي كان يطلق عليها في ذلك الوقت اسم التابعية، وكانت تصدر لهم حفيظة نفوس بدون صورة ويكتب مكان الصورة عبارة: "معفى من الصورة"، بينما تكتب كل البيانات عن حامله، لذلك كان التصوير في بداياته في بلادنا من أجل الضرورة فقط، وقد صاحب ذلك افتتاح استوديوهات للتصوير في عدد من المدن الرئيسة من أجل التقاط الصور الشمسية وذلك لاستخراج حفائظ النفوس والجوازات، وكان كل مراجع لإدارة الجوازات والجنسية في ذلك الوقت يطلب منه صور شمسية من أجل إلصاقها في دفتر النفوس أو الجواز، وكذلك الحال لطلبة المدارس الذين بات يطلب منهم صوراً شمسية عند الدخول الى المدرسة وعند إتمام الشهادة الابتدائية أو المتوسطة أو الثانوية، وبعد تقدم الزمن بات التصوير أمراً مألوفاً لدى الجميع، بل صار من ضرورات المناسبات، حيث بات الجميع يتسابق إلى توثيق لحظاتهم الجميلة في كل مناسبة للاحتفاظ بها للذكرى. تعليم البنات وانبرى البعض لمحاربة كل فكر جديد، وصار همه العمل على إجهاضه بل ووأده في مهده، وكمثال على ذلك فقد وقف الكثيرون في وجه إقرار تعليم البنات بمدارس نظامية حكومية خاصة بهن، فقد قابل هؤلاء هذه الخطوة بالرفض، على الرغم من مطالبة عدد آخر بذلك، ففي عهد الملك سعود -رحمه الله- بدأت موجة من المطالبات في الصحافة السعودية بافتتاح مدارس نظامية للبنات كما ذكر مؤلف كتاب (مقاومة التغيير في المجتمع السعودي.. افتتاح مدارس تعليم البنات أنموذجاً) للدكتور عبدالله بن ناصر السدحان، الذي ذكر بأنه نشأت معارضات أمام تلك المطالبات ودارت سجالات ليس حول رفض تعليم البنات فقط، فقد كان هناك خلاف حول طبيعة التعليم ونوعيته وخصائصه، وكانت ثمة عوائق أخرى منها الوضع المالي، والفاقد التربوي لعدم وجود معلمات سعوديات في ذلك الزمن، وكان من طرائف الخروج من هذا المأزق اقتراح يقضي بتعليم المكفوفين ليتولوا بعد ذلك تعليم البنات، وكذلك حاولت الحكومة جلب معلمات من السودان، لكنها لم توفق في الحصول إلاّ على مدرّسة واحدة، ومع كل هذه الظروف وبعد أن توسعت النقاشات حول ضرورة تعليم البنات في الصحافة السعودية أصدرت الحكومة بياناً ملكياً بتعليم البنات في عموم مناطق المملكة بتوقيع الملك سعود بن عبدالعزيز -رحمه الله- أذاعته المديرية العامة للإذاعة السعودية ونشر في صحيفة أم القرى، واحتوى البيان على لهجة كانت حريصة على طمأنة الأهالي بأن تعليم البنات سيكون وفقاً للإسلام وبعيداً عما كان يسمعه البعض عن أنظمة التعليم في البلدان العربية المجاورة. منارة علم وجاء في البيان: "الحمد لله وحده، وبعد.. فقد صحت عزيمتنا على تنفيذ رغبة علماء الدين الحنيف في فتح مدارس لتعليم البنات العلوم الدينية كإدارة المنزل وتربية الأولاد لتكون هذه المدارس في منأى عن كل شبهة في المؤثرات التي تؤثر على النشء في أخلاقهم وصحة عقيدتهم، وقد أمرنا بتشكيل هيئة من كبار العلماء الذين يتحلون بالغيرة على الدين والشفقة على نشء المسلمين وتكون الهيئة مرتبطة بوالدهم حضرة صاحب السماحة المفتي الأكبر الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ"، فانتشر تعليم البنات في كل مناطق المملكة وزاد الإقبال في وقت وجيز وتغير الوضع وبات من كان يعمل على ضد ذلك يطالب بافتتاح مدارس للبنات في بلدانهم بعد أن عرفوا فوائد تعليم المرأة، وما زالت المرأة تحظى بالدعم والتشجيع على الدراسة وتحصيل العلم فأنشئت الجامعات وأصبحت منارة علم ساهمت في تمكين المرأة في خوض سوق العمل والنجاح في ذلك. راديو وتلفزيون وعند ظهور التقنية الحديثة كالراديو مثلاً والذي كان أول ما تلقاه جيل الأمس من مخترعات جديدة استقبل بالرفض وعدم القبول كغيره من كل جديد، حيث كان من يمتلك جهاز راديو يوصف أنه يستمع إلى صوت الشيطان!!، وكم حدثت من قصة كهذه خاصةً في منطقة نجد، لذا كان من يملك الراديو لا يستمع إليه في تلك الفترة إلاّ مع سكون الليل أو في مكان بعيد عن الناس كغرفة منزوية في مزرعة، وقد صاحب ظهور الراديو موجة من الرفض بل والتحذير منه، ويجسد ذلك قول أحد شعراء تلك الفترة قصيدة في ظهور الراديو الذي هو أشبه بالفتنة التي تمنى أنه مات ولم يرها، فيقول في بعض أبيات قصيدته: يا اللّه يا غافر الزلاّت يا اللّه من النار تنجيني هيهات من يعتبر هيهات ماتوا هل الصدق والديني شفت الرادو مع الشنطات حطّن بصدر الدواويني يا ليت من هو قديم مات والكيف ما شافته عيني النقص بيّن وله شارات كثروا جنود المغنيني وكذلك الحال بالنسبة للتلفزيون الذي كان العديد من الناس يحرصون على عدم دخوله إلى المنزل كي لا يفسد أخلاق أهله، لكن مع مرور الزمن صار لا يخلو منه أي منزل، بل انتشرت بعده العديد من الأجهزة كالفيديو وأجهزة استقبال البث المباشر للقنوات الفضائية، وأجهزة الترفيه والألعاب وغيرها من الأجهزة الذكية. مرحلة جديدة ومع التقدم الذي يشهده العالم والانفتاح الكبير على الآخرين فإننا نسعد أن تخطينا تلك المرحلة الحرجة من تعاملنا مع كل ما هو جديد بإفرازاتها، فنحن ولله الحمد نعيش مرحلة جديدة من الانفتاح المسؤول وليس المنفلت، والإدراك المسؤول المتمسك بدينه وتقاليده الذي يأخذ بمبدأ الرأي والحوار، فأصبح كل ذي رأي يعي ويعرف ما يريده، فيناقش ويستمع ويقرر، ولا يسلّم عقله وفكره للآخرين ليملوا عليه ما يريد، فلم يعد هناك أوصياء كما كان في السابق، بل انتشر الوعي وزادت الثقافة التي عمت الجميع صغاراً وكباراً، وتغيرت الكثير من المفاهيم واندثرت العادات التي كانت سداً منيعاً أمام تقدم البلاد وتطورها. باتت قيادة المرأة أمراً مألوفاً في شوارعنا ظهور الراديو استقبل بالرفض وعدم القبول قديماً التصوير وثّق اللحظات الجميلة نعيش مرحلة جديدة من الانفتاح المسؤول وليس المنفلت افتتحت صالات السينما وبات يحضرها الجميع