قبل ما يقارب الثمانين عاماً ودّع عبدالعزيز ضيفيه بعد أن تناولا طعام العشاء عنده وخرجا والقرية يلفها الظلام، حيث لم تعرف القرى في ذلك الوقت الكهرباء، ويمما وجهيهما إلى الخيام التي يقيمان بها في البراري القريبة من البلدة، وأثناء السير في الطريق كان القمر ينثر ضوءه أمامهما لينير لهما الدرب وبعد مغيب القمر تفاجأ بصوت مدوي من بعيد تلاه ظهور نور يرتفع تارة وينخفض أخرى فما كان منهما إلاّ "الهرولة" قافلين بفزع إلى بيت مضيفهما في القرية طارقين الباب بشدة ليفتح الباب ليفاجأ بعودتهما إليه ودخولهما إلى المجلس وهما يرتجفان مما رأياه، حيث أخبرا مضيفهما أن القمر قد وقع على الأرض وصار يتدحرج أمامهما، ففرا إليه راجعين، ولما صعد الرجل إلى سطح بيته ليستطلع الأمر وجد أن ذلك النور القادم من بعيد ما هو سوى نور سيارة مقبلة في طريقها إلى القرية للتوقف لأخذ قسط من الراحة ومن ثم متابعة المسير إلى الرياض، فنزل ضاحكاً قائلاً لهما إن ما شاهداه ما هو سوى "حنتور" مرّ بالقرية في طريقه إلى الرياض، وقد كان الناس يُسمون السيارة في بداية دخولها للبلاد "حنتور" وجمعها "حناتير"، وهي مصطلح عائد لكلمة "حنطور" التي تعني عربة الخيل في اللغة التركية، لذلك انتقلت إلى الأجداد بنفس المسمى، وتكرر المصطلح في كثير من قصائدهم وأشعارهم وفي ذلك يقول الشاعر إبراهيم الطويان: ياحول يا فهيد أبو صدام يوم الحناتير خلنه الناس ناموا وهو ما نام يلعي كما تلعي الشنه الله يجازيك يالأيام ما ضحكنه يبكنه ولكن الرجلين ظلا يرتجفان وقررا عدم المغادرة إلاّ بعد طلوع الشمس من شدة خوفهما وفزعهما مما شاهداه. وعي وثقافة وفي موقف مماثل فقد كان اثنان من الأصدقاء يقومان بجمع الأعشاب والحشائش من المرعى القريب من القرية، فإذا بالمساء يفاجئهم فيحل الظلام سريعاً وهم يحملان ما جمعاه مسرعين إلى القرية، وبينما هما يهمان بدخول القرية إذا بشيء له صوت دوي مروع يقترب منهما وفيه إضاءة قوية تنخفض وترتفع وأمام هلعهما من هذا الشيء القادم فقد خمنا ما هو حيث قال أحدهما: إنه نوع من الجن يسميه القدماء "الشيفة" التي تسير ومعها شظايا نار طائرة، وقاما بالتكبير والنداء للصلاة وهي الطريقة التي اعتاد الناس على طردها بها، ولكن باءت محاولتهما بالفشل فلاذا بالفرار تاركين ما معهما من حشائش مطلقين الريح لقدميهما حتى وصلا إلى القرية واختبأا عنها، ولم تكن الدابة سوى سيارة قادمة من الرياض في طريقها إلى مكة وهي تمر بإحدى قرى نجد، فقد كان الناس يعتقدون أن هذه الدابة من أعمال الشيطان ويظنون أن الجن أو الشياطين هم من يجعلانها تمشي. هاتان الحادثتان تبينان ما كان الناس عليه منذ القدم في التعامل مع كل شيء جديد وغير مألوف، حيث دأبوا على محاربة كل جديد وغير مألوف ويتعاملون معه بتخوف كبير بل ويرفض أكثرهم استخدامه مثل التعامل مع الأجهزة التي ظهرت بعد ذلك مثل "المبرقة" و"الراديو" و"التلفاز"، إضافةً إلى التعامل مع مستجدات العصر التي فرضتها الحاجة مثل التصوير من أجل استخراج التابعية - حفيظة النفوس - وتعليم البنات وعمل المرأة وقيادتها للسيارة، ولكن مع مرور الزمن وانتشار الوعي والثقافة صار الأخذ بكل أسباب التقدم هو منهج الجميع وصار من يعارض ذلك في بدايته يسارع إلى الأخذ به بعد ذلك ويتقبله. أكثر تحضراً وفي خضم التغير الذي شهدته بلادنا في بداية نهضتها في مطلع السبعينات الهجرية كانت المدن أكثر تقدماً وأخذت نصيباً وافراً من الحضارة، حيث أحدثت الوظائف المكتبية التي لا تتطلب جهداً بدنياً متعباً، فكل ما يتطلب فعله هو الكتابة على مقعد وثير وطاولة، كما انتشرت الكهرباء ومدت شبكات المياه وصارت تصل إلى البيوت دون الحاجة إلى إحضارها من الآبار كما في القرى، إضافةً إلى انتشار التعامل بالعملة الورقية الجديدة في الأسواق بدلاً من العملة المعدنية، وكذلك الحال بالنسبة إلى انتشار المطاعم التي تُقدم أكلات جديدة غير مألوفة من قبل، فيما كانت القرى تغط في سبات عميق، حيث يغلب على سكانها العمل الحرفي اليدوي كالنجارة والحدادة أو في المزارع والحقول، وبالتالي صار سكان المدن أكثر تحضراً من أهل القرى فصار أهل المدن ينعتون أهل القرى بلقب "القروي"، أي الذي يأتي من القرية إلى المدينة ويكون بعيداً عن الأخذ بأسباب الحضارة، وقد واجه زوار المدن من أهل القرى في تلك الفترة الكثير من الحيرة مما شاهدوه من تلك الرفاهية التي يعيشها أهل المدن وعبروا عن استغرابهم الشديد لما رأوه، بل إن البعض قد فر هارباً إلى القرية حيث لم يتعود على تلك الحياة الجديدة، معبراً عن رفضه لهذا الجديد ومفضلاً العودة إلى الحياة الهادئة بعيداً عن التقدم الذي رآه. العودة للقرية ورجع أحد سكان القرى القريبة من الرياض إلى قريته بعد أن زارها لبضعة أيام فيما كان يخطط للعمل فيها والاستقرار، فلما سأله أهل القرية عن سبب عودته بسرعة أبدى استغرابه ورفضه لما رأه، فقد قال بلهجة عامية: "وجدت شرب مرق، وعدّ ورق، وشغلاً بلا عرق، وجدرانهم تشب وتصب وتهب"، وتفسير ذلك بأنهم يشربون المرق بالخضار واللحم ويقدمونها في المطاعم، ويعدون الورق أي النقود بالعملة الورقية، أما الشغل بدون عرق فهو العمل في المكاتب المكيفة، وجدران تشب أي تضاء بلمبات الكهرباء، وتصب من صنابير المياه الممددة بشبكات في البيوت، وتهب أي المروحة التي تهب وتوزع الهواء في الغرف. ولعل قروياً آخر فقد نعله عند أحد المساجد المكتظة بالمصلين، وقد كان اشترى نعلاً جديداً واستبدل نعله القديم "الزنوبة" الشائع في القرى بعد أن ودّع الناس لبس "النعل" المصنوعة يدوياً من الجلود، ولعل أحداً من المصلين قد لبسها عن طريق الخطأ أو أن أحد اللصوص قد سطا عليها مما جعله يأنف من العيش في المدينة ويفضل العودة للقرية الوادعة ويترك حياة التمدن والانفتاح بعد أن قال شعراً: يا ويل من هو خذ نعالي خلاني أمشي بزنوبه واثره حرامي ومحتالي هو يحسب الناس لعبوبه رفض المذياع وعند ظهور الأجهزة الحديثة كالمذياع - الراديو - مثلاً، قابله الناس بالرفض بل عدوه من رجس الشيطان وكانوا يقفون بالمرصاد لكل من يمتلك واحداً في بيته، في تلك المرحلة عرفت الجزيرة العربية وبالذات منطقة نجد الإذاعة و"الراديو" كأول وسيلة ترفيه وتواصل بالعالم الآخر، تغلغل إليها من دول ومدن ساحلية كانت أكثر انفتاحاً، ولم يكن اقتناء الراديو أو القبول به أمراً هيناً على اعتبار أن الإنسان عدو ما يجهل حيث قوبل بمشاعر الرفض القاطع من السواد الأعظم تحت قناعة أن من أدخل في بيته الراديو هو كمن أدخل الفساد في بيته، بدأ تحذير المجتمع من أن بلوى عظيمة وشر مستطير قادم بدأ يتغلغل في المجتمع يهدد بنسف القيم ونشر المجون والفساد يجب محاربته والوقوف ضده، وقد كان من يمتلك الراديو في بداية ظهوره يحرص كل الحرص على أن لا يعلم أحد بوجوده لديه، وذلك مخافة أن يشي به إلى "النواب"، وهو ما يطلق على رجال الحسبة في ذلك الوقت، حيث سيكون مصير من علموا به أن يداهموا بيته ومن ثم تفتيشه للعثور على هذا الجهاز الذي ستكون نهايته على عصيهم التي يحملونها بين أيديهم ومن ثم يهوون بها عليه كي يكسروه ويحطموه ويتخلصون منه بالكلية، وقد يطال مالكه شيء من التعنيف وتعهد بعدم تكرار امتلاكه مستقبلاً. تلفاز ودش ومن الأجهزة الأخرى التي لاقت الرفض أيضاً البرقية حيث كان البعض يعدها من عمل السحر وأن ما يحركها ويشغلها هم الشياطين، حتى تم إفهامهم أنها مجرد جهاز صناعي بحت وظيفته نقل الأخبار في أسرع وقت ممكن، وكذلك استمرت عمليات الرفض لكل جهاز تقني جديد، فبعد أن ظهر التلفزيون وانتشر في البيوت امتنع كثير من الناس عن إدخاله لبيته على الرغم من وجوده لدى أقاربه، وأما الكثير من العجائز فقد ظللن يغطين وجوههن عند ظهور صورة المذيع أو أي رجل، مدعيات أنه يشاهدهن ولم تجد محاولات الإقناع بأن من يظهر في الشاشة من الرجال لا يستطيع رؤية من يشاهد التلفاز، بل استحالة ذلك عقلاً، وقد ظل الكثير من النساء الكبيرات مصرات على رأيهن حتى توفاهن الله وهن على هذه الحال، ورغم تقدم العلم وظهور التقنيات الحديثة والقفزات الهائلة في مجال الابتكار في وسائل الاتصال وانتشار الوعي والثقافة إلاّ أنه ومنذ زمن قريب فقد قوبلت العديد من الأجهزة بالرفض مثل جوال الكاميرا وأجهزة استقبال القنوات الفضائية - الدش -، حيث تم التحذير منها وامتنع الكثيرون من اقتنائها، ولكن بعد فترة قصيرة من الزمن أقبل الناس على اقتنائها وصارت ضرورة عصرية قل من يستغني عنها. تعليم الفتاة وكان انتشار التعليم في بداياته خاصاً بالبنين فقط، ومن ثم برزت فكرة تعليم الفتاة في عهد الملك سعود - رحمه الله - الذي أصدر مرسوماً ملكياً بذلك أوضح فيه عزمه على تنفيذ رغبة علماء الدين الحنيف في المملكة في فتح مدارس لتعليم البنات العلوم الدينية من قرآن وعقائد وفقه، وغير ذلك من العلوم التي تتماشى مع عقائدنا الدينية كإدارة المنزل وتربية الأولاد وتأديبهم، مما لا يخشى منه عاجلاً أو آجلاً أي تغيير على معتقداتنا، لتكون هذه المدارس في منأى عن كل شبهة من المؤثرات التي تؤثر على النشء في أخلاقهم وصحة عقيدتهم وتقاليدهم، وقد أمرنا بتشكيل هيئة من كبار العلماء الذين يتحلون بالغيرة على الدين لتشرف على نشء المسلمين في تنظيم هذه المدارس ووضع برامجها بمراقبة حسن سيرها فيما أنشئت له، وتكون هذه الهيئة مرتبطة بوالدهم حضرة صاحب السماحة المفتي الأكبر الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، على أن تختار المدرسات من أهل المملكة أو غيرهن اللواتي يتحقق فيهن حسن العقيدة والإيمان، وكالعادة فإن كل شيء جديد يقابل بالرفض حيث انبرى العديد من العامة من الجهال والمتشددين الذين يحاربون كل جديد واستماتوا من أجل قصر التعليم على البنين فقط، رغم أن تعليم البنات في بدايته لم يكن إلزامياً، لذا فقد امتنع البعض عن إرسال بناتهم إلى المدارس وفضلوا بقائهن في البيوت، ومع مرور الوقت وتقدم الزمن ندم الكثيرون منهم على عدم تعليم بناتهم، وصار الكل يحرص على أن تنال ابنته أعلى الشهادات الدراسية. تغير المفاهيم قيل قديماً: "الإنسان عدو ما يجهل"، وقد جبل الإنسان على التصدي والتخوف من كل شيء جديد فالمتتبع لما كان الناس عليه من رفض للعديد من الأجهزة المخترعة مثل البرقية والراديو والتلفزيون وحتى التصوير من أجل استخراج حفيظة النفوس، حيث كان الكثير من كبار السن يرفض التصوير ومن أجل ذلك وأمام إصرار المتقدم على عدم التصوير، فإنه تستخرج له حفيظة نفوس دون أن يتم تصويره ويكتب مكان الصورة عبارة "معفى من الصورة"، وغيرها من مستجدات العصر الحديث يجد أن ذلك كان نتيجة الجهل بالشيء والتخوف من كل شيء جديد غير مألوف والتي ما إن انتشر العلم والثقافة حتى بدأ الناس في تقبلها بل ويحرصون على اقتنائها، وفي عصرنا الحاضر فقد تغيرت المفاهيم وتبدلت وزاد الوعي بين الناس وتبدل الرفض إلى القبول والإقبال بعد ظهور الفوائد وانتفاء المفاسد الشرعية. أهل القرى تأخروا بالأخذ بالجديد البعض رفض التصوير لإثبات حفيظة النفوس جهاز استقبال القنوات الفضائية قوبل بالرفض في البداية خبر أمر إنشاء مدارس لتعليم البنات المذياع عند ظهوره Your browser does not support the video tag.